ثقافة

“الشمس التي لا تشرق من ساعة اليد”.. تفتتح نهاراً شعرياً متألقاً

ببديهية مشحونة بالدلالات يعنون إياد حمودة مجموعته الشعرية الثانية (الشمس لا تشرق من ساعة اليد) والبديهيات التي هي معرفة حدسية قادرة على أن تكون حاملاً جمالياً بأن ينتشلها الأدب من العادية إلى  مصاف الدهشة، وذلك بجعلها في مهب الاحتمال والتساؤل، أو للمفارقة التي قد تقوم عليها كما في عنوان المجموعة.
الشمس التي أتت أول كلمة في العنوان أتت أيضاً أول كلمة في صلب المجموعة، وكأن الشمس هنا فاتحة لنهار شعري يمتّد على مدى 175صفحة هي صفحات المجموعة، نهار يشف صوراً وحالات  مدهشة.
العلاقة بين الشمس والقصيدة بيّنة في المقطع الأول من نص المجموعة الأول، حيث تأذن الشمس بوجودها ولو في مكان غير مناسب لتهيؤ القصيدة للانطلاق:
الشمس
وقت كانت راية بالية
ترفرف قرب صورة الجنرال
رأيت قصيدة بخواتم حجرية
تعقد خيط حذائها
على شكل فراشة
لا يجهد حمودة نفسه في البحث عن تحفيز للكتابة، فهو في أغلب ما يكتب يحتفي بالحياة المعاشة المألوفة، لكن أيما احتفاء حيث يجلو الجمالي ويستثير الدهشة مما خبا في شعورنا بسبب الاعتياد، يلفت إحساسنا إلى الطيف الجمالي والدلالي  للمواضيع التي تقوم عليها تجربته الشعرية معتمداً في ذلك على ثراء الصورة الشعرية جمالياً وأبعادها المتعددة، ودينامية النص وحيويته.
ينعش حمودة الدهشة البائتة في عادية الحياة اليومية بدفق انفعالي حار ورصين، ثري وعميق بعيد عن الابتذال، هذا الدفق الذي ينجم عن روح جذلة وفطرية شعرية يمضي إلى أن يصب في بناء النص وشكله آخذاً مكوناته من لغة شفافة مشحونة بالانفعال والمعنى وقائماً على وحدات لغوية قصيرة ذات علائقية مادية مترابطة أحياناً، ومعنوية بالإحالة إلى بعضها في أحيان أخرى:
خمسة قتلى تتدلى من يدي
حين تهب الرياح
ترتطم ببعضها..أسماؤهم
فترن
تبدو العلائقية هنا باستخدام ظرف الزمان هنا (حين) الذي يمهد لاحتمال الحدث الوارد في الشطرة التالية، واستخدام حرف العطف (الفاء) السببية والتي تقرن النتيجة بالحدث السابق.
بينما نجد العلائقية المعنوية في مقاطع أخرى كهذا المقطع:
آخر حبة فستق.. في الطبق الصغير
آخر رشفة عكرة.. من النبيذ الأحمر
الشتاء..
فتاة ترقص وراء النافذة
بعض المقاطع  لم تقم على علاقة سببية منطقية وهذا ولّد غرائبية قامت على انزياح في المعنى والدلالة وهو ما عمّق الأثر الجمالي ووسع طيفه:
تناول قطعة.. من كبد طائر
مغطاة تماماً بالملح
أصيب بالغم قليلاً
لأن معطفه قديم
يقوم استدعاء الغم كون المعطف قديم، على طبقة الملح التي تغطي كبد الطائر، لكن ما الرابط بينهما هل هو حالة التغطية؟. أو هو الملح الذي يطهر ويحفظ كل شيء، أو فعل الأكل الذي هتك طبقة الملح مما استدعى إلى ذهنه المعطف المهلهل.
النصوص سلسلة مبنية بشكل يبتعد عن التعقيد والتكلف، كذلك لم تقع في مطب الابتذال والتكرار وهي تبدو في مجملها وكأنها تنامت بشكل فني أقرب للطبيعي رغم الدراية والسوية الفنية التي لا تخفى على الناقد أو القارئ، وهي في بنيتها تتنوع بين تلك المبنية بشكل تراتبي هارموني كما في النصوص (لا يمكن وصفها، يعتريك ذعر غامض، خمّارة الأرمني، خيط لإصلاح العزلة).
أو التي بنيت بشكل مروحي يتمحور حول موضوع واحد ولكن بدون لعبة المداورة حيث نجد كل مقطع منفصل عن الآخـر ويرتكـز على المحور الأساس في النص، نجد ذلك في النصوص (على شكل خدوش وتجاويف، حيوان، الشمس لا تشرق من ساعة اليد، ريثما يخفّ الزحام).
لغة النصوص هي لغة شعرية صافية وقد أتت مناسبة بعيدة عن التكلف والتقعير الذي تبدو معه اللغة وكأنها غاية في حد ذاتها، كذلك لم تأت لغة عادية تخفّض من السوية الفنية للنص، الملفت هو التنوع  والثراء في القاموس الشعري للشاعر وهو ما وافق التنوع في موضوعات النصوص وحالاتها.
مجمل نصوص المجموعة تقوم على الصورة إن كانت لقطة واحدة أو متحركة مشهدية، وهي في الحالتين صورة حيوية ذات دينامية واضحة تبين الحدث السابق وتمهد لللاحق في حالة اللقطة وكأنها حالة عبور أو تحّول للحدث:
بعد أن يضمحل
إلى نقطة بلا شكل
الطائر الذي علقت بمشاهدته
و لم تعرف متى تكف
سترجع إلى المرأة في جوارك
وستغرم.. بطريقة شربها للقهوة
حقّق حمّودة معادلة صعبة في نصوص هذه المجموعة وهي موازنة حضوره في النص بين الذاتية التي لا بد منها في الشعر ولكن دون أن تكون عبئاً على النص واستقلاليته النص التي قد تصل إلى درجة التجريد التي تخفف من الشحنة الانفعالية وبالتالي الجمالية للنصوص:
على حافة الحيد
كان ما يرتطم بروحي أقسى من الاكتشاف
كان الهدير.. عميقاً
ناعماً، واخزاً
كقبلة على فم امرأة..
يشتهيها جميع الرجال.
الأنا واضحة هنا، لكن الشاعر خرج بها من حيّز الذاتية وأعطى تجربته طابعاً عاماً في لبوس جمالي.
الحالة الأخرى تتوارى فيها الأنا بحيث تبدو وكأنه ليس لها حضوراً مباشراً كما في المقطع التالي:
مسح النادل طاولة صفراء
غادرها للتوّ جنديان يافعان
تاركين قشور البسكويت
شرب الفنان قهوة عند الزاوية
وفتاة تخيّلت أنها نصف ملك ونصف غجرية
طقطقت أصابعها في المقهى
لا يحترق الزمن بشكل كامل
بل يترك.. أثاراً خفيفة.
ما يميّز هذه المجموعة وتجربة حمّودة بشكل عام هو أنه يعيد إجلاء الوجوه المطموسة لجماليات الحياة، ويشحن ذلك العادي المألوف الذي فقد دهشته بدهشة جديدة تتأتى من حس الكشف أو الولادة من جديد.
(الشمس لا تشرق من ساعة اليد) صادرة عن دار أرواد للطباعة والنشر، طرطوس عام 2016.
مفيد عيسى أحمد