فيروز.. لحظة الأبدية.. عقيق الزمن والكلمات
لطالما ارتبط اسم السيدة فيروز بمعرض دمشق الدولي منذ خمسينيات القرن الماضي، ارتباطاً رسم طقساً لحكاية عشق من طراز خاص، إذ يتماهى الصوت بالشجن والمكان وعطر الكلمات، فهي براءة الأزمنة كلها، والنقاء المقيم الذي وزع ترانيم الحكاية في فضاءات معرض دمشق الدولي ولياليه الحارسات للجمال، الباهيات الصور بكل ما أوتي من بذخ بالإحساس مذ صدحت في مساءات قريبة بعيدة (أحب دمشق)، كان شعر سعيد عقل المغنّى ينتثر ملوناً فضاءات دمشق، ومبللاً قلوب أحبتها الذين توافدوا إلى المعرض، أشبه بحج روحي إلى المكان –درة التاريخ والجغرافيا.
في المركب الذهبي لفيروز ودمشق ظلت الجغرافيا أرض حلم أكثر منها أرض كلام، أرض فضة الروح إذ لا يمكننا فصل تلك العلاقة نظراً لما انطوت عليه من دلالات تعبر من زمن إلى زمن في ظلال الشعر والغناء وبهجة المكان.
فيروز.. بصوتها السماوي وبكحل حروفه البيضاء، كانت الموعد والوعد والملتقى، هنا أو هناك، تماماً كما هو ميعاد القلوب الراعشة بحلم اللقاء، والذاهبة إلى فضة الوقت الأثير، نذهب بالعلاقة إذن إلى أكثر ما هو مشتهى باكتمال الحلم، حينما تختتم صيف دمشق بكوثر الغناء فعبقرية الصوت المتناغمة مع عبقرية المكان –دمشق- قد غدتا معراج العودة إلى دمشق، دمشق السلام والجمال وليست مشيئة من أرادوها بلا تاريخ أو ذاكرة، وهنا يتجدد طقس شديد الاختلاف بمعرض دمشق الدولي، أي بكيمياء الروح التي تأخذنا إلى انثيالات الدهشة والحبور وصناعة الفرح، ومازال السوريون يصنعون الفرح على طريقتهم السورية الخالصة، لأنهم الجديرون بالانتماء إلى ثقافة الحياة نبذاً لثقافة الموت وقتامة مفرداته، حضرت فيروز جسداً في الزمن الجميل، والآن تحضر صوتاً وكأنما الصوت قد غدا جسداً، يؤثث المكان بجمال لا يُستنفد، لتشتق من سبائكه الذهبية أطواق ياسمين ما برحت تزنر الأرض بشذاها الممزوج بنكهة الشهداء، وبعرق ودم رجال الجيش العربي السوري، صنّاع الفرح الحقيقي والسلام الأبدي.
فكم أدهشتنا فيروز وهي تغدق على أرواحنا مسرات لا تحصى لآلئها، وتصدح: “طابت الذكرى.., شام أهلوك إذا كانوا على نوب قلبي على نوب… أنا صوتي منك يا بردى”، أية أقانيم للجمال سوف نعد، ودمشق عروس طالعة من وهج الأبجدية تفتح ذراعيها لكل الآتين من بهاء الجهات، الآتين عشاقاً، وشهوداً على قيامتها وسيفها الذي لم يغب ظل في مهماز الأبدية، هنا أرض الحياة لشعب تاق لموعده مع الشمس، الشمس الآتية من أعلى النوافذ، ومن شرفات تطل على المطلق ما كانت يوماً سوى أرواحهم الأخرى، التي ظلت تحرس الأرض فهي صورتها الأخيرة ومراياها الصادقة.
فكم أخذنا حرير الروح لنماهي بين دمشق وفيروز، وندلف إلى ما بعد الحكاية لنرى الغد أجمل، والحلم قد اكتمل، حلم الأرض بنجاتها من الغزاة الطارئين العابرين، الآتين من غبار الأزمنة، لكن أحلام أبناء الحياة وهي تكبر على متسع أرض غسلتها الشموس وطهرتها، وجوهرت حجارتها، هو ما تبقى لنا فالغد فقه الآتين ليعمّروا الأرض ويبنوا الروح الجديدة، المشبعة بكل مفردات الحياة.
الآن وهنا يتجدد عقد مع التاريخ، تاريخ الجمال، هكذا هي حضارة الحروف، حضارة الروح السورية ومنذ عشرة آلاف عام وأكثر، حقاً هو مركب ذهبي يأخذ البشر الحالمين إلى غير حلم مازال في مدونة دمشق أوركسترا شرقية، بكل ملامحها وخفقات ذاكرتها، فعلى أجنحة الغناء صار معرض دمشق الدولي نداء كينونة سورية طرزتها أصابع أرواحهم، صار سجادة ضوء تمشي عليها قلوبهم..
دمشق ثقافة الحياة من تجدد عقدها مع التاريخ، تاريخ ما نسيه التاريخ.
أحمد علي هلال