الولادة مرة أخرى
سنّة الحياة تقول أن تترك قلب العائلة وحيدا, معلقا على شجرة توت، لا صوت يؤنسه في الصباح ولا عصفور يغط على خاطره فيطيبه بنقرة لطيفة, لتكمل حياتك بعيدا عن بيت الطفولة إمّا بنية سفر أو عمل أو بنية زواج.
لا يمكن وصف شعور انقسام حبة الفول عن نصفها، ترك السرير فارغا من نَفَسك، إفراغ الخزانة من ذكرياتها، توضيب مؤونة مغلفة بأكياس مالحة. أيام وسنون طويلة، أوجاع وأفراح ومزاح, فنجان قهوة مطحون بحب لا مذاق في الدنيا مثله, رائحة البيت النظيفة، الأغطية المنشورة على حبل رقيق كنسمة، كلما هب الهواء حرك إحساسه بالعبق.. إنه السر الذي يميز شرفة عن أخرى فغسيل الأمهات لا يتشابه بالرائحة, لكل منهنّ روح تطير على مزاجها فقط.
الإقامة في حيّ ما, هي الانتماء لوطن صغير بكل مكنوناته وتفاصيله، شوارعه بعد أن ينام الجميع ويهدأ الليل على عتبة البيوت, دكاكينه المفتوحة لحساب آخر الشهر، وجوه قاطنيه وتحياتهم كلّما طل وجه جديد أو مرّ من أمام واجهة ما.. كل هذا يجعلك تتمسك بصوت بائع الغاز فيه، برائحة الطعام وقت الغداء تفوح من الشبابيك اللذيذة، بزغرودة جارة لنجاح ابنها بعد الإعادة, هذا ما يسمى بالانتماء لبقعة من الأرض دون غيرها، وهذا نفسه ما يجعل الطفل يبتسم لوجه أمه دون أي وجه آخر.
الانتقال إلى مكان جديد كالخروج مرة ثانية إلى الحياة، البداية من الصفر، اكتشاف التفاصيل، اعتياد الوجوه الغريبة وتحمّلها حتى تصبح مألوفة، الاستماع إلى مزاج الجوار في الموسيقا، تعلّم مصطلحات لم تسمعها من قبل، إنها حالة الولادة من رحم حنون إلى فضاء بارد. لكن الطبيعة البشرية لا تبخل ولا تقسى, فالنفس تتأقلم بعد فترة من الزمن وتبني عمارة جديدة في القلوب، تتعلم من وحدتها وغربتها، تذوق الصبر بشهية لم تعرفها من قبل، وبعد أن تصقل وتسكب في قالب جديد، يعود النبض إليها هادئا عقلانيا.
لا شك أن التكنولوجيا بمفرداتها الكثيرة، تقلل أحيانا من فرص اجتماعية وإنسانية, إلا أن من جميل ما قدمت للبعيدين عن صباح هادئ أو ليل مجنون في مناخ ما هو وسائل التواصل وتقنيات الاتصال، إنها مسكن اشتياق فعال, فكل جرعة صوت أو صورة كفيلة بأن تطيب الآلام والحسرات وتخفف منهما. بالطبع لا مجال للمقارنة بين لقاء حميمي وآخر الكتروني لكن الحياة تجبرنا أن نخلق بداخلنا أكثر من روح.. أن نعيش بقلبين على الأقل، أن نعجن الملح في خبزنا كي لا يقع من على حافة الرغيف، أن ندور مع الساعة حتى يحل موعد اللقاء. إنها الدورة التي ما إن تتوقف لحظة فرح حتى تسرع إلى حضن الانتظار وهمومه.
ندى محمود القيم