ثقافة

شعراء الأمة.. عليكم سلام

لو نسينا الإبداع لحظة, وعدنا إلى همومنا الشعرية, لسألتكم عمَ نكتب أيها الشعراء في هذا الزمن العربي الرديء المضاد للشعر والشعراء، عن سورية العربية التي تقاتل أعداء السلام والحرية, عن العراق الذي ينزف دماً من جراء الإرهاب, أو عن ليبيا التي أحرقها الغزاة الأطلسيين، ومصر التي تسودها الفوضى من كل حدب وصوب؟ فما أصعب أن نكون شعراء في الأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين, التي يجب على الشاعر العربي أن يكون وطنياً وقومياً مع صمود العراق والدفاع عن ليبيا الدولة وفضح المؤامرة الكبرى ضد سورية العربية بقلمه ومنبره في كل مكان. كان الشعراء يموتون عشقاً, فأصبحوا يموتون من الضجر, كانوا فرساناً يقفون في خطوط التماس والنار, يصنعون المعارك ويكتبون شعر الحماسة, أصبحوا مثل الآخرين يتابعون الأخبار على شاشة التلفاز أو يعملون موظفين في الصحف.. من منا لم يخن الشعر بطريقة أو بأخرى, فكيف لا يخوننا الشعر بدوره؟ وكيف لا يغادرنا الشعراء واحداً واحداً في هذا الزمن المضاد للشعر.غادر الشعراء أوطانهم, صوب جغرافيات أخرى, قد لا يلائمهم هواءها فيمتد بهم العمر حتى يبلغوا من الإبداع عتياً,  فإذا هم مصابيح معطلة على أرصفة الغربة.. غادر الشعراء قصائدهم أحياناً صوب أجناس أخرى, قد يسلس لهم قيادها فيطلون علينا من غير ما قمة, وقد تحرن مطاياهم الجديدة غير بعيد عن السفح.. غادر الشعراء مناصبهم السامية احتجاجاً على الصنيع الفظ لاحتلال بلدانهم في هذه المنازلة أو تلك، فيخسرون كراسي واطئة يربح الشعر مقابلها قاماتهم الفارغة, بل إن منهم من تنازل لأجل الشعر عن رئاسة دولة في قارة لا تتنازل فيها, حتى الجثث عن حصتها من الذباب, فيما يصعد شعراء الطوائف قصائدهم الذريعة سلماً نحو سدة الوهم.. فقد أصبح الشاعر يؤاخي بين الأجنحة كافة. من جناح البعوضة حتى جناح الرخ, في سعي عنيد منه لإعادة وتركيب, ولو جزء صغير من المرآة عسى أن يكون الجزء حيث عين الحقيقة, العين المسمولة, وهي تحدق بشماتة في شتى أنحاء العالم.
غادر الشعراء الكبار والشعراء الدجار, غادر الشعراء الصعاليك والشعراء المماليك وغادر الشعراء الشعراء.. منهم من عرف الدار بعد توهم وحارب من أجلها بكلمته المقاتلة, ومنهم من عرف الوهم دون تردد , ومنهم من ضيع الطريق الوحيد إلى عقره.
لا غرابة إذاً إن جاءت قصيدته شعثاء مثل كومة من الريش ولا غرابة إن استعارت بعضاً من أصوات الغابة.
العالم غزير الضوء, والشاعر لا يزال يحمل مصباحه ويغدق عليه من زيت القلب كي لا يتوقف وجيب الضوء, تلك طريقته في التوجس من هذا السطوع العظيم, فقد رأى فيما يرى الشاعر أن العالم سيصاب بسكتة ضوئية مفاجئة ترديه جثة حالكة, ساعتها سيظهر الوجه الحقيقي للخوف من مرآة الظلام الكبير, ولا أحد غيره ووحده مصباحه النادر الذي يذرف أجنحة الضوء سينعم برؤية الوجه البهي, ذلك الوجه الذي يشبه تماماً عين الحقيقة.
مات عنترة منذ لم تعد لنا سيوف تذكره بثغر عبلة, ومات أبو فراس الحمداني منذ أصبح (عصي الدمع), والحبر معاً يوم اكتشف أن النساء لا يعشقن كل هذا العذاب وأن لا أحد يموت (ظمآناً) في هذا العصر.
مات المتنبي يوم مات (سيف الدولة) وبحث عبثاً عن حاكم عربي آخر يستحق المدح فيه فلم يجده, وانتحر أبو نواس وهو يبتلع زجاجته الأخيرة ويكتشف بدوره أن القضية أكثر تعقيداً مما كان يتصور, وأن الخمرة لم تعد (داءه ولا دواءه)..
مات امرؤ القيس بعدما بكى طويلاً (كعادته) واكتشف أن /فاطم/ لم تعد جميلة في زمن الماكياج والأثواب القصيرة, وأنها لم تعد اليوم المرأة التي يصعب العثور عليها (بين الدخول فحومل) بعدما وصلت سيارات (الكاديلاك) و(الروز رايز) إلى كل خيمة عربية, كم من الشعراء انتحروا مذ أصبح النفط حبرنا الوحيد.
فماذا تكتبون أيها الشعراء وماذا عسى الشاعرات يكتبن في هذا الزمن العربي الرديء الذي تحارب فيه سورية العربية قوة الظلام القادمة من الغرب؟. ليس هذا زمن الخنساء,ولا رابعة العدوية, ولا ولادة بنت المستكفي..
منذ أصبح كل عربي مشروع شهيد وكل شهيد اسمه صخراً ضيعت الخنساء قبر أخيها ولم تعد تتقن الرثاء.. قلبنا يمضي لأولئك الذين يكتبون في تشردهم وحصارهم قصائد الصمت المكابر. في العراق وفلسطين والجولان وجنوب لبنان والصومال ودنيا العرب، أنتم الذين ستموتون في حادثة حب أو حادثة شعر يا آخر سلالة بوشكين ولوركا وأمل دنقل وخليل حاوي وأبي القاسم الشابي ومعين بسيسو.
أنتم الذين ستموتون ككل المبدعين بالذبحات القلبية, بالرصاص, وبأمراض هذا العصر, فالشعراء فراشات لا تعمر طويلاً, إنما البقاء للتماسيح والفيلة.
تعلموا كيف تفتخرون مسبقاً بنهايتكم.. افتخار الآخرين بتفاهتهم..افتخار الحكام بجرائمهم..افتخار اللصوص بغنائمهم.. وكان الله في عون الشعراء في محنة هذا العصر العربي الرديء.
د. رحيم هادي الشمخي