أنا عاثر الحظ
حنينٌ كبير يتلبّسني أن أمرق كالريح, هارباً من أرصفة العواصم التي ابتلعت أيامي, وأنهكت روحي, باتجاه بيتنا الخشبي العتيق في تلك المدينة البعيدة جداً.. أن أمر مثل النسيم من نافذة بيتنا المنذورة للغياب المبكر, ولكثير من الحزن الطافح على تشققات أخاديد الزمن القاسي.. تلك النافذة التي هجرناها ذات فجر, وتبعثرنا في زحام الوقت والوجوه والحياة, أمي المسكينة غادرت مبكراً, وأبي مضى إلى ماتبقى له من نساء.
أما أنا عاثر الحظ فكان لي ما كان للطير من الهجرة والترحال, والفارق المؤلم بيننا أن للطير عشاً ينتظره ويأوي إليه, وله جوانحاً وفضاء رحباً, أما أنا فقد علقت جوانحي بدبق الانتظار وقسوة الحياة , فما عادت لي قدرة على الترحال, وليس لي سرير ينتظرني ولا أحد.
أمشي تحت سماء واطئة مثل قلبي, الفضاء يضيق بروحي وبي, والحنين يدمّر بعض ماتبقى لي من أمل, كأنني ذاك العصفور المعلق بخيط الوهم على شرفة بيتنا الخشبي العتيق, العصفور المنذور لانتظار باهت وحزين لغائب لن يأتي أبداً, فيبلل ستار النافذة بدمعه الحزين, حين غادرتني قبل أن تعلمني عن سر ذاك الغياب المفاجئ, وبقيت أنتظر رجوعها إليّ, علّقت عينيّ على شرفة نافذتي اليتيمة, وروحي على خشبها وقلبي على ستارتها, أنتظر تلك الإطلالة البهية للتي كانت في كل لحظة نمضيها سوية تحيلني لقلب ناصع البياض, أغسلني بالدمع وقسوة الانتظار, هاجر سرب السنونوات وعاد ولم تأت, عبرني سرب القطا ورف اليمام ولم تأت! وحين خانني حدسي وفقدت الأمل من عودتها يمّمت وجهي صوب الجهات التي اختارتني, صوب الاغتراب الذي كان قدري, متلبساً أنا بذكرياتها لضحكتها لبحة صوتها لتلك القبلة التي لا تنسى أبداً.
حنينٌ كبير يتلبّسني إلى شجرة (الكينا) التي كانت الشاهد الأول والأخير على قصة حب لا تنسى, لكي أشكو للشجرة قسوة غيابها الموجع حد الجنون, أُمنّي النفس وأتمنى لو أني ألتقيها للحظة, بعد أن أبللها بدمع العتاب أقول لها بكثير من عتب الغياب المدمر والمباغت: كيف طاوعك قلبك وتركتيني وحيداً بلا أحد, أنا من بعدك بلا أحد…,.
تمضي الأعياد عيداً تلو عيد وتمضي, وأمضي معها بلا أحد, إذ ليس هناك من أعيّده أو يعيّدني, كان من عادتها في عيد الأضحى أن تكون أول من يعيّدني, مرت أعياد كثيرة ولم يطرق أحد باب بيتي أو قلبي, ولم أذهب لأيّ أحد, وكأنني بلا أحد, أو لا أحد!.
في عيد الحب, ذبلت القرنفلة الحمراء بعدما تيبست بين أصابعي. من يعيدها لي, أهبه كل ما تبقى لي من العمر. أخرج إلى الشارع الذي يفضي إلى أرصفة مكتظة بالورود والهدايا والنساء الحالمات, لكنني بلا أعياد وبلا أحد, عاشق منسي نسجت من عذاباته واغترابه الحياة , قصة مؤلمة لا يأبه بها أحد ولن. أنا عاثر الحظ, عرّاب الدمع والحزن الدفين, أجوب عتبات الليل على أهداب الليل, أفرش قلبي على بوابة عبور العاشقات, لعلّ عاشقة ما بلا أحد وتبحث عن عاشق قريب الشبه مني, أو يشبهني.
حنينٌ كبير لوردة الروح, لبسملة الندى, للمرأة التي كان عطر أنوثتها يسكن كل خلاياي. ماذا أفعل بهذا الحنين ومن منا سيقتل الآخر؟ ماذا أفعل بهذا الفائض من الدمع والحزن الساكن أنين الذاكرة والذكريات؟.
كيف طاوعها قلبها ونستني على رصيف الحيرة والانتظار, تركتني لكل هذا الحزن من قهر الانتظار ومرارة الأشواق, ومن ذبول الورد على رصيف الانتظار المر.
أحمد عسّاف