ثقافة

“واقعيّة بلا ضفاف”.. كتاب له راهنيّته القصوى

هذا الكتاب، للفيلسوف الفرنسي “روجيه جارودي” مهمّ لسببين رئيسين: أوّلاً: لأنّه مثال فكري يُحتذَى به لمفكّر ناقد شمولي منفتح على الجديد الدّائم. وثانياً: لإصداره في مرحلة وصل بها المدّ الاشتراكي العالمي للنظرية الماركسية، ذروته. وقد تحوّلتْ نصوصُها  إلى شبه “ديانة” عالميّة، لها طقوسها ومعابدها وسدنتها ومشائخها لو شئتْ. فكان ظهور الكتاب بداية الستينات في فرنسا أشبه بثورة فكريّة صغيرة جعلت الكثيرين من عبدة النّصوص يقفون موقف المشكّك والمتّهم لصاحبه. وقد تُرجم إلى العربية نهاية الستينيات- 1968م. والكتاب يناقش بهدوء وانفتاح نتاجَ ثلاثة رموز فنّية وأدبية إشكاليّة أغنت المشهد الثقافي الأوروبي بالكثير من الإبداع المختلف: “بيكاسو الإسباني الفنان التشكيلي، سان جون بيرس، الفرنسي الشاعر وكافكا الرّوماني الروائي”. يقول المفكّر “غارودي” عن “بيكاسو”: (لم يقدّم لنا صورة مثاليّة لهذا العصر. كما لم يشوّهه أيضاً. لقد استوعب قوانينه العميقة، لا أحداثه الطارئة وأثبت أنه من الممكن خلق عالم آخر بقوانين أخرى. لقد استنبتَ فروعاً جديدة على شجرة الواقع. وبثّ الحياة في كائنات ومسوخ تنتمي إلى جنس مجهول، وإن احتفظت كلّها بالوحدة العضويّة للكائنات الحيّة وتميّزت بقدرتها الهائلة على إثارة الأسئلة والتّحدّيات). لقد أوحتْ شخصيّة “بيكاسو” لـ”يونغ” حين زار معرضه في “زيورخ” بأنّها مثال أنموذجي للشخصيّة الفصاميّة، وأعراض ذلك تبدو في خطوطه المتكسّرة والشّروخ النفسيّة التي تتخلّل رسوماته وأخطرها المرحلة الزرقاء التي ترمز إلى النّزول إلى الجحيم، والأدهى من ذلك، قوّة الجاذبيّة الشّيطانيّة للقبح والشرّ. وهذا ما أوصل “يونغ” إلى استنتاج تشخيصي لحالته المرضيّة: لديه تناقض في الأحاسيس، بل انتفاء تامٌّ للحساسيّة، وهكذا.!.بينما يرى “غارودي” أهميّته الإبداعيّة، بأنّه: أحدثَ انقلاباً في التّقاليد الممتدّة عبر آلاف السنين والتي تقضي بالذّات بمحو خطوط البناء في التّصوير عند الانتهاء من العمل، وقد ظهرت بوادر “التّكعيبيّة”  في تصويره قبل تأثّره بـ “سيزان” حيث اختصر التّجسيم إلى أقصى حدٍّ، بجعل الحيّز بلا عمق أو منظور مدروس، وتشتيته للضّوء، كما كانت الألوان لديه في وقت مبكر تقوم بدور التّابع، حيث ترتفع أمام الخلفيّات الباهتة أشكال ضخمة منطوية على نفسها. ولغة الأزرق بلوحاته القاتمة المتشائمة التي أخفت ألوان الأمس الزّاهية، هي لغة لا تحتاج لتفسيرات “يونغ” النفسيّة، لأنّها تنتمي إلى تقاليد تصويريّة قديمة، حيث الأزرق كان لون جهنم لدى المصريّين، وهو لون الحزن والغضب لدى الألمان، وعند ه هي أقرب إلى ألوان “الجريكو” الرماديّة المتّجهة نحو البنفسجي والأزرق، وأقرب إلى تناسقات الأزرق والفضّي عند “ويستلر”. باختصار، لقد خلق “بيكاسو” أساطير لكلّ فنان أصيل بتحدّيه لـلمثّال “بجماليون” بمنحه المادّة نبضات إنسانيّة حيّة. أما القسّيس “سان ليجيه” وهو اسم الشّاعر “سان جون بيرس” الأصلي، الذي يقول برسالته إلى “ماكس بول فوشيه”: (أرجو أن تعفوني من الإشارة إلى حياتي الدبلوماسيّة، لم يكن عبثاً أن اخترتُ اسماً أدبيّاً مستعاراً لنفسي، وأن مارست باستمرار الازدواج الواضح في شخصيّتي، والواقع إنّ أيّ ربط بين “سان جون بيرس” والقسّيس “سان ليجيه”، لابدّ أن يؤدي إلى تشويه نظرة القارئ والإضرار بتفسيره للشعر). يقول “غارودي”: (وجدتُ في شعر سان جون بيرس” الصّورة المعكوسة لملحمة الإنسان عند “هيجل” فهنا أيضاً يعي العالم نفسه داخل الإنسان ويحلّ محلّ الآلهة القديمة بكلّ جرأة، وهذا التّوافق الفريد بين “الموسيقى والفكر” لديه يفرض علينا الوجود والحركة، وأيّ توقّف في هذه الحركة يكون أشبه بشرخ في قطعة من البلّلور على حد تعبير “بول فاليري”. كم أحببنا في “بيرس” كلماته  التي تحدّثنا عن (الباحثين بطرف المجسّ عن الصلصال الآخر القابع في الأعماق يشكّلون به وجه أحلامهم والمنقّبين عن الفكرة الجديدة في نضارة الهاوية، والنّافخين في الأبواق على أبواب المستقبل. وأمّا “كافكا”  فرغم تعدّد القراءات حوله بأنّه آخر أنبياء إسرائيل. وأنّ  في تمزّقات شخصيّته روح تسعى للخلاص والهداية. وأنّ أدبه يصبُّ في اللّاهوتيّة السلبيّة. أو أنّه مجرّد برجوازيّ صغير يتردّى في التّشاؤم كما وصفه الماركسيّون. أو أنّ نتاجه الأدبي ينضوي في نطاق الجهود العبثيّة لـ “سيزيف”  أوفي إطار القلق الطّاغي عند “هيدجر” كما أفتى الوجوديّون، ومختصّو علم النفس، وجدوا فيه مثالاً أنموذجياً لـ “عقدة أوديب”. أمّا ” غارودي” فيقول: ينتابُ المرء حين التعرّض لأعماله نفس شعور بطل قصته “الأحراش المتأرجحة” الذي يلخّص حالته:(وقعتُ في أحراش متشابكة، لا مخرج منها. كنتُ أتجوّل في هدوء وأنا مستغرق في التّفكير، وإذ بي أقع فجأة، فتحاصرني الأحراش من كلّ جانب. لقد سقطتُ في أسرها وضعتُ) .كان الهاجس الكافكاوي الأساسي هو بحثه عن مغزى لحياته، وإلى تصريح إقامة في الوجود، يقول في يومياته: “أعيشُ غريباً أكثر من الغرباء أنفسهم”. ولعلّ صرخته الملتاعة لـعشيقته “ميلينا” توضّح ذلك: “أنا لا أحبّك، بل أحبّ ما هو أكثر من ذلك، أحبّ وجودي الذي يتحقّق من خلالك” . لقد كان كفاح “كافكا” ضد الغربة في صميم الغربة نفسها أو بعبارة أخرى قالها “سبينوزا”: “إنّه وعيٌ بالغربة مصحوبٌ بجهل أسبابها ووسائل التغلّب عليها”.
أوس أحمد أسعد