ثقافة

القصيدة والهوية.. جفرا مثالا

واحدة من مزايا الشعر بكافة أنواعه، أنه يقوم بدور الحافظة الزمنية التي لا تهترئ ولا تختفي ولا تضمحل، خصوصا عند أولئك الشعراء الذين كان لديهم حس وطني بأبعاد قومية، والأهم أن هذه القصائد أو “الحافظة اللغوية” حملت الكثير من الحكايات التي اندثرت في الكتب والمراجع، ولم يبق منها إلا ما هو موجود بذاكرة من وصلته القصة فاحتفظ بها في وجدانه، أو ذاك الموجود في قصيدة ما، قام شاعرها بتحميلها مضامين القصة بطريقة عبقرية كما فعل الشاعر الفلسطيني –الخليلي- “عز الدين مناصرة، في قصيدته الشهيرة “جفرا” والتي حملت بين أبياتها حكاية هذه “الجفرا” التي صارت لغزا وأحجية في وقت ما.
“من لم يعرف جفرا فليدفن رأسه” هكذا قال الشاعر عز الدين المناصرة في قصيدته المشهورة “جفرا لوطنٍ مسبي” والتي نشرها عام 1976 بعد استشهاد حبيبته الطالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت “جفرا النابلسي”، والتي استشهدت عام 1976 جراء غارة صهيونية، ويقول البعض أنها استشهدت في خضم أحداث الحرب اللبنانية في ذلك العام. انتشرت القصيدة بشكلٍ كبير وترجمت إلى أكثر من 20 لغة ولحّنت وغناها الكثيرون، منهم “خالد الهبر” و”مارسيل خليفة”، ومن خلال هذه القصيدة انتشر اسم “جفرا” والّذي يعني لغويا “الشاة الصغيرة المُكتنزة”. ومن آثار انتشار القصيدة هو إعادة التذكير بنوعٍ غنائي تراثي فلسطيني يُدعى الجفرا، قبل أن يطاله النسيان بدوره، ويصبح تراثا مفقودا، يستطيع أي كان أن ينسبه لنفسه- انظروا ماذا يفعل الصهاينة مع كل ما هو من التراث الفلسطيني، إنهم يهودوه ويجعلوه من بقية إرثهم المزعوم، ليس بدءاً بالحجر ولا انتهاء حتى بالمأكولات الشعبية!
ولنمط “جفرا وياهالربع” الموسيقي التراثي حكاية مُثيرة بدورها لم تتكشف فصولها إلا عام 1982، عندما لاحقها عز الدين المناصرة ليعرف خفاياها والتقى بصاحبها وببعض من عايشوا انطلاقتها، تقول الحكاية: في ثلاثينيّات القرن الماضي، كان هنالك راعٍ شاب قوي البنية يعيش في قرية “الكويكات” في قضاء عكا يدعى أحمد عبد العزيز الحسن، وكان الرُعاة مشهورين بالزجل وبالعزف على الشبّابة. وكان أحمد يحب ابنة عمه ويريد الزواج بها.
لم يكن اسمها “جفرا” إلا أنه لقبها بذلك، فهو راعٍ وأجمل منظر بالنسبة إليه هو الشاة الصغيرة المكتنزة. وعندما طلبها، وافق أهلها. وفي اليوم التالي للزفاف عادت إلى أهلها باكيةً، وبعد ذلك بأسبوع تم الطلاق. لا أحد يعرف ملابسات ما جرى. لكن يُقال أنها هربت ليلة الزفاف لأنّها كانت تُحب ابن خالها الّذي تزوّجته لاحقاً. ويُقال أيضاً أن أحمد ضربها على طريقة “اقطع لها رأس القطّ” فلم تتحمّل الفتاة هذه المعاملة السيئة وتركته. وإن كنا نميل إلى القصة الأولى فكما تذكر المراجع كان أهل الكويكات يتكتمون بشأن هذه القصة وكأنها نوع من الفضائح إلى أن كشف النقاب عنها عام 1982. وبعد الطلاق, كان “أحمد” يراها تنزل إلى العين لتملأ الماء لزوجها الجديد، فكان يعزف على شبّابته ويزجل على لسانها:
جفرا ويـاهالربـــع بتصيح يـا اعمـامي
ما باخـــذ بنيّكــم لو تطحـنوا عظامي
وإن كانت الجيزة غصب بالشـرع الإسلامـي
لرمي حالي في البـحر للسمـك في المــيّا.
واصفاً رفضها له ليلة الزفاف وهروبها. طبعاً لم يكن يذكر اسمها الحقيقي _و كان “رفيقه نايف حمادة الحسن”_ حفاظاً على التقاليد والسمعة. ومن بين الأبيات الّتي كان ينشدها واصفاً حبّه الشديد لها:
جفرا يا هالربع نزلت على العينِ
جرّتها فضة وذهب وحملتها للزينِ
جفرا يا هالربع ريتك تقبرينــي
وتدعسي على قبري يطلع ميرامية.
قصة حبّ من طرف واحد صنعت جزءاً من التُراث. وقصة حب أُخرى كشفت النقاب عن ذلك التراث. فأصبح اسم “جفرا” جُزءاً من الهوية الفلسطينية وأصبح النمط الغنائي “جفرا وياهالربع” مثل “الدلعونا” و”العتابا والميجنا”.
بالتأكيد لن تمرّ قصة تحمل هذه المعاني على شاعر مخضرم وعذب مثل “مناصرة” فلقد أدرك بحسه الشعري، أن القصة التي سمعها من عدة أطراف، لها أساس راسخ في التراث اللامادي الفلسطيني، وإن “جفرا” خيط من الخيوط التي حاكت “الكوفية الفلسطينية” كما خيوط أخرى كثيرة من حرير تلك البلاد وكتانها، تمازجت في الوجدان الشعبي وأعطت صفة الخلود، لهذه القضية التي لن يغلق بابها، إلا وجفرا بما ترمز له، حرة، رشيقة، سعيد، وبجديلة تلعب على كتفها تشبه خريطة فلسطين.
عز الدين المناصرة (11نيسان- 1946م)، شاعر وناقد ومفكر فلسطيني من مواليد محافظة الخليل، حاصل على شهادة (الليسانس) في اللغة العربية، والعلوم الإسلامية من جامعة القاهرةعام 1968.
تمّام علي بركات