ثقافة

الطب زوجتي والأدب عشيقتي

“الطب زوجتي والأدب عشيقتي”.. هكذا يصف الطبيب والأديب الروسي تشيخوف علاقته بالطب والأدب، ورغم عشق تشيخوف للمسرح منذ سن الـ 13 إلا أنه لم يبدأ بالكتابة والتأليف إلا أثناء دراسته في كلية الطب بموسكو، وحين سئل الطبيب الشاعر إبراهيم ناجي عن كيفية جمعه بين الطب والشعر قال:‏
“الناس تسأل.. والهواجس جمّة‏
طب وشعر كيف يتفقان‏
الشعر مرحمة النفوس وسرّه‏
والطب مرحمة الجسوم ونبعه”.‏
وأما شاعر حماة وطبيبها وجيه البارودي فقد قال:‏
“طبي وحبي وشعري.. شغل أندية‏
أتيت إلى الدنيا طبيباً وشاعراً‏
أداوي بطبي الجسم والروح بالشعر”.‏

مشاهير
يقول سومرست موم في كتاب “تلخيص حياتي”: “لست أعرف مِراناً للكاتب أفضل من أن يقضي بضع سنوات في مهنة الطب”.. في حين فسّر الباحث محمد مروان مراد في ندوة “أطباء لكن شعراء” التي أقيمت مؤخراً في ثقافي أبو رمانة أن الجمع بين الطب والأدب شعراً ونثراً قديم في التاريخ، ومن يقلّب سجل الأدب العالمي تطالعه وجوه العشرات من المبدعين الذين جمعوا بين مهنتهم العملية وعطائهم الفكري كانوا أطباء وفي الوقت ذاته شعراء وروائيين ومسرحيين: جون كيتز، أوليفيير جولد، روبيرت بريدفر، ابراهام كولنز، أنطون تشيخوف، وكثيرون غيرهم.
وعن العلاقة بين الطبيب والإبداع الفكري وما الذي يدفع الطبيب إلى عالم الأدب أشار مراد إلى أن الأطباء إلى جانب خبراتهم بالنفوس وأجسام البشر يتحصّلون على ثقافة عالية من خلال تعمقهم في المطالعات والدراسة الجادة اللازمة لمهنتهم، وهذه الثقافة تحتم عليهم التعود على البحث في مواضيع معينة وسبر أغوار الشخصيات في تلك المواضيع مما يراكم لديهم خميرة طيبة لأعمال إبداعية متجددة، ولهذا ليس غريباً أن تُقدم لنا مهنة الطب قائمة طويلة من الشعراء والأدباء الذين أعطوا نتاجاً فكرياً مرموقاً وأثروا ساحة الأدب بالجديد المبتكر من عيون الشعر وروائع القصص والروايات، منوهاً مراد إلى أسماء كثيرة في هذا المجال مثل الشاعر ابراهيم ناجي الذي كان من أوائل الشعراء العرب الذي تابعوا بكثير من الفهم والتأييد حركة الشعر الأوربي الحديث وقد مثّل شعرُه تياراً جديداً في الشعر العربي الحديث، ورسم لنفسه صورة الشاعر المهموم بما وراء الحياة، مبيناً مراد أن ناجي عبَّر بصدق عن عصره وقدّم تجاربه في الحياة، وكان الحب موضوعاً رئيسياً في شعره:
“حان حرماني فدعني يا حبيبي
هذه الجنّة ليست من نصيبي
آه من دار نعيم كلما
جئتها أجتاز جسراً من لهيب”
كما كان من الضروري لمراد أن يذكرنا بالطبيب عبد السلام العجيلي المثقف القادم من الرقة والذي شغل سنوات عمره بين عيادته ومضافة الأسرة وترحاله في أرجاء الدنيا، وفي أثناء دراسته الجامعية كتب شعراً ونثراً، وكان أدبه نابعاً من التراث أولاً، وبيئة الفرات الغنية ثانياً، وهي التي أغنت ثقافته وأسهمت في إبداعاته وغزارة إنتاجه، وهو الذي أحب الشعر في شبابه وحفظ كثيراً من الشعر العربي القديم، وكان شعره عبارة عن قصص قصيرة وحوارات بين النجمة والقمر، والنهر والشاعر، موضحاً أن العجيلي اعتبر أن كل ما مارسه في الحياة مجرد هواية، حتى عمله الطبي مارسه بروح الهاوي وليس المحترف، وكذلك الأدب الذي كتب فيه ما يشتهي ودونما التزام.
وعن طبيب الفقراء الشاعر وجيه البارودي بيّن مراد أن شهرته ذاعت في مدينة حماة كطبيب بارع، يستقبل مرضاه في عيادته مرحبّاً بحرارة، وأحبّ حماة وغار عليها، وأشعل لياليها بأناشيده، وأحبَّ المرأة بصدق وأسرفَ في الحديث عنها وتحليل أفكارها ومشاعرها، وأجاد في الغزل، وبرع في السخرية من كل شيء، من الآراء والأفكار، وحارب الجمود والأدعياء، وكان الشعرُ هو العلاقة الجميلة بينه وبين الحياة:
“الشعر إلهام إذا غنيته
انسجم الهوى والسحر في أبياتي”
متلازمة الطب والشعر
ووجه الطبيب الشاعر د.نزار بني المرجة في بداية مداخلته تحية للطبيب الشاعر د.نزار بريك هنيدي الذي اعتذر عن عدم المشاركة في الندوة لعارض صحي أصابه، وكتحية له نقل بني المرجة قناعة هنيدي بما يتعلق بما أسماه متلازمة الطب والشعر وهو الذي سبق وأوضح أن الطبيب على تماس يومي مع أعماق النفس البشرية ويلامس كلَّ أسرار الوجود للإنسان فيتعامل معه في عرائه الروحي بعد أن يتخلص من جميع البراقع والأقنعة، وبذلك فإن الشاعر يدخل ويسبر أعماق النفس البشرية، أما عن الجراحة وهي اختصاص هنيدي فقد رأى أن الفعل الشعري فعل أدبي وفني، والفعل الجراحي فعل فني أيضاً، حيث يجب أن يكون الجراح فناناً لكي لا يترك أثراً للجرح الأندلسي والعباسي، كما سلط بني المرجة الضوء على أطباء شعراء في العهدين، وهم كثر برأيه.
ولطالما لفت نظر الطبيب برهان خربطلي وهو على مقاعد الدراسة أبيات لشعراء عظماء عرف فيما بعد أنهم أطباء، معترفاً أنه كثيراً ما سأل نفسه: “ما الذي جمع بين الطب وهو علم البحث والشعر الذي يتطلب موهبة؟”.. ليدرك بعد ذلك أن العلوم الإنسانية هي التي جمعتهما، فالشعر فن رفيع وموهبة، وهو فن يبحث في علم الإنسان وظروفه، وكلاهما، الطبيب والشاعر يجتمعان، فالطبيب عن طريق مهنته، والشاعر بقوة ملاحظته وشعوره المرهف، ولا يجد خربطلي غرابة في أن يكون الطبيب شاعراً لأن احتكاكه بمرضاه ومعاناتهم جعله يثري أفكاره الإنسانية ويستلهم منها عناوين قصائد.

أمينة عباس