ثقافة

“قدك المياس”.. لوحة فسيفسائية بقلم الواقع وعبق المعنى

يتماهى العنوان مع فحوى الكتاب الذي ضم  قصصاً قصيرة استطاع عبرها د. نضال الصالح أن يرصد الأحوال العامة، من خلال خصوصية المشهدية في قصصه المتواترة بتصاعد درامي مع سيرورة الحالة التي أراد توصيفها, ولكأنه اختار عنوان “قدك المياس” ليعطي لكتابه الاسم الرمزي المعبر, بسطور منسوجة بلغة تعبيرية أخاذة تعطي الصورة والمعنى العاطفي لها بدقة وهي ميزة الأدب وجوهره..
تمايزت المعاني بما يسمح بآفاق الرؤية والمشاعر للقارئ، وبتراقص البصر والبصيرة له على أوتارها: فمن غصين البان2 “رحلت ريمة ولم تعد تملأ كوكب الأرض بالحياة, بل لم يعد للحياة أي معنى, وريمة ليست فيها ومنها, وليست تملأها بالامتلاء, الذي يميزها بالجمال الاستثناء الذي أبدعه الخالق على نحو يخصها وحدها, بل على نحو يتأكد من يراها أن الشاعر عناها بقوله “صلى الجمال لها وصاما”.
التوظيف والتناص كان سمة وجزءاً من اللوحة الدرامية, إذ أن الأمثال الشعبية والأغنيات الدارجة والحكايات من خابية الأيام, هي النقوش التي رسمت القصص بصورة حية, وكأنه مؤرخ بخصوصية أدبية وبمصداقية شعورية.
لقد اعتمد نصاً تصويرياً ذاتي المنشأ شاعري الأسلوب فيه رهافة وجمال, ووراءه مشكلة اجتماعية ناتجة عن قضية عامة, وقد احتاج إلى تحقيق الرؤيا للعالم والإكثار من الأصوات الروائية المتباينة في وجهات نظرها وإلى السرد الخبري, واتخذها لغة لبيان مجتمع الرواية: مقطع من صبا بردى ص 234:
“في ذلك اليوم وكان عقرب الوقت يلسع ما تبقى من جسد اللقاء, وعدتني بل أقسمت لي بأن تنتبهي إلى نفسك كثيرا, وأنت تبلغين تخوم حي برزة, حيث تسكنين خوفا أن يطالك رصاص قناص من القابون, الذي اضطررت مغادرته بعد أن أتخمه المسلحون بالموت القادم من غير جهة من غابات الأرض”.
الشخصيات واقعية ومجتزأة من الزمان والمكان ومرآة صادقة عنه من خلال مشاعرها ومواقفها, إنها أداة طيعة في ريشة الكاتب تتحرك وفق خياله الإيحائي الذي أجاد اللعبة السردية وتصوير أفكاره الواقعية الممزوجة بالحياة والراهن الحق..
والسرد كان له أسلوبية المباشرة والخطف خلفا, وهو ما تتطلبه القصة القصيرة التي تعتمد الإخبار والتشويق من خلال زج الحكائية في سطور ما بين التوظيف اللفظي والمعنى، وقد استخدم  ضمير المتكلم كأنه أراد الدمج بين السيرة الذاتية وسيرورة الحدث لكونه جزءا منه بطبيعة الحال, كما في خماسية “عصفورة الشجن1” وأقسم لصفوان أن ما نسبته إلى ثمانية وتسعين بالمئة من الحكاية وما سبقها, محض تخيل فيضحك ويضحك, حتى يضج خداه بحمرة ثمينة وحتى يضطرب في عينيه دمع باذخ من شدة الضحك ثم يغمرني بلهجته الشامية  “أي أخي مثل ما قال المتل” وأساله “أي متل؟” فلا يتردد بالقول “على هامان يا فرعون”…
لقد رسم تفاصيل تاريخية لظروف اجتماعية تعيشها سورية بهذه الأزمة, وخص لوحته المزركشة بدقة وواقعية مدينة “حلب” وحرص على المصداقية في مرآته المزكاة بالمحبة لهذه المدينة الغراء التي  ومن ص214: “حلب روح, وأي روح! ذاتٌ لطيفة, غافلت المطلق في عليائه وعلى غبطة منه, فغادرت بضعة من روحه ثم هبطت على الأرض, وصارت مدينة! مدينة اختارت لنفسها حاء الحب والحسن والحنطة والحياة, ولام اللحظ واللجين واللحن واللغات, وباء البرق والبشر والبلاغة والبسملات”.
عكس الكتاب علاقات اجتماعية متواترة مع سيرورة الأحداث, من خلال لغته التي تستنطق مشاعر الشخصيات وأحلامهم المتقاطعة مع المحيط العام, وتصل إلى آفاق معرفية لقصصه, إذ أن التخيل يغني النص آفاقا ويتغير تبعا للظرف, والكلمة وحدة للإشارة تنتهي إلى أن “التعبير المراوغ” من سمات الخطاب, والمعنى الباطني بها يؤخذ من المرجع الاجتماعي لها, لأن القراءة فن إسقاط يدمر الوجود المستقل للنص ليبنى له, وهو ما يدخله بالانطباعية التي تتحدث عن أثر النص في النفس, ومما يبعد النص عن النقد بموضوعية, إذ إنه لا يتصف بالثبات من خلال عملية القراءة, بما يعني أن “فعل القراءة يحقق جماليات التلقي”, وهو ما اشتغل عليه الكاتب من خلال تحقيق جماليات التلقي عبر رصد الموروث الاجتماعي في صوره وإشاراته المكنية..
إنه يصور حالات من دفتر الأيام, ويجسد تعابيراً من وحي الخيال في كتابه الذي أراد أن يكون لوحة فسيفسائية بقلم الواقع وعبق المعنى.
رجائي صرصر