ثقافة

نقد سياحي

لم يرقص على الحبال ولم يجامل، ولم ينضوِ تحت أيّ راية، فقد كان شخصاً صعلوكاً وفالتاً. بهذه العبارة نختصر الكثير من الملاحم الفردية لأناس امتهنوا التمسك بالمبدأ.. بصرف النظر أيعجبنا أم لا يعجبنا..! وفي قراءة الخواتيم، نرى أن عنوان البقاء يُذيّل غالباً بجملة: وقد دفع حياته ثمناً لمواقفه وثباتها..!

في بلاطات الملوك والأمراء سابقاً كان الفنانون يدعون ليرسموا وجوه الحكام بأبهى صورة، وما يزال الأمر جارياً على قدم وساق بصورة أرقى من سابقتها بعد التطور التقني الذي يمكّن بعضهم من أن يجعل من القرد غزالاً، ومن (أبي بريص) ديناصوراً..!

في المسرح النفسي، تلعب الدمى العاطفية دوراً في الاستمالة والتحيّز.. وقد تتبدل الرؤى وفقاً للمعطيات الحديثة.. أو المستجدات التي تولد في شهرها السابع.. أي قبل موعد الولادة..!

إذن، تسابق على اقتناص اللحظة بصرف النظر عن الرؤيا والرؤية، فلا مانع عند بعضهم من سبق فني أو نقدي دون استناد إلى أساس منطقي، فالكل يراهن على اللحظة، ثم تتبدل الجلود بما يناسب المرحلة الهامة وانحناء لرغبة العامة.

والسؤال: لماذا ينساق بعض رسامي الكاريكاتير للمجاملة؟ ولماذا يضطر الناقد أيضاً إلى الفعل نفسه؟

كثيرة هي الأسئلة الإشكالية المتوالدة من عمق المشاهدات المنثورة على مساحات النقاش. وكثيرة هي التناقضات داخل أسوار العمل الإبداعي بمفرداته وتجلياته كافة. إنّ الحكم على المفردات داخل الأسوار المذكورة وربطها بقنوات التلقي عند القارئ، هي دعوة حقيقية  للاستدلال والمعرفة.

وهنا، نتذكر قصة سائح زار لندن للمرة الأولى واستمع لنصيحة مواطن إنكليزي قال له:” يجب ألا تفوتك زيارة وايت هول”، ففي ناحية منها ستجد تمثالاً لملك قُطِع رأسه، وفي الناحية المقابلة ستجد أيضاً تمثالاً للسيّاف الذي نفّذ حكم الإعدام. وهذا برهان واضح على نزعتنا لإرضاء الجميع”.

“أحياناً يبقى المرء وفياً لقضية ما لمجرد أنّ خصومه لا يغيرون تفاهتهم”.. فهل ينطبق الموضوع على (نتف الريش) في جوقة النقد المستعصي..؟

في مقولة التلقي.. ترقب حذر وقراءة أبعد من رصف كلام عابر للسطور.. فقد يفقد المراد بعض خصوصيته وتنهار بعض حروفه كالألف واللام والدال.. ليبقى (المر) عنواناً بائساً.

ككل ضروب النقد، يوجد هدف وغاية.. فمن الحالة الآنية الاستطلاعية والاستقرائية والمسح الضوئي، إلى التشخيص المثبت المبني على معطيات منطقية.. دون المساس بشرف نبض الوريد.. فنسيان غاية المرء بحسب “نيتشه” هو أكثر أشكال الغباوة انتشاراً. فهل نحتاج إلى إعادة تدوير ذهني.. وخصوصاً في مسألة النقد الفني والأدبي..؟ وأين المنقود من لعبة الاشتباك الحاصل والصراعات القائمة على مسارح الاستعراض..؟

في أمسية شعرية، خرج الناقد مستعرضاً عضلاته المنفوخة (مواد حقن) وقد اعتلى حصانه الجامح بجناحين من مفردات وجمل مرصوفة ممجوجة أكل الزمن عليها ونسي أن يشرب.. ليعلن ظهور فارس جديد حطّم التقاليد الشعرية ورفع مكانة الصورة في انزياح لامثيل له.. صفق الحضور وانحنت الهامات للناقد السياحي.. فهو الدليل، ولولاه لما عرفنا مناطق الجمال في البنية النصية للشاعر.. وكذلك ينطبق الحال على بعض المروجين لفنان ما.. فكأنّ الموضوع تأكيد لمقولة “لا غالب ولا مغلوب”..! ويخرج فارس آخر من فرسان النقد ليعلن أن المسافة بين الفنان الفلاني وأقرب منافسيه هي 100 كم وألف سنة ضوئية بعد التقنين..!

في مفهوم آخر، وعلى ضفاف التمكين.. صراخ يشبه صرخة “إدوارد مونش”.. ولكن في جو مغاير لإثبات أحقية المرء في المساحة المتروكة له..! أنا أكتب، إذن أنا موجود…أنا أرسم، إذن أنا موجود.. أنا أنقد، إذن أنا موجود..مع كل هذي الأفعال، يبقى الوجود هو الأساس كمقولة ثبات ويقين.

أنا أنقد، يعني أن استخلص كل منابع الجمال في النص دون ترك الباب مفتوحاً للمواربة. أنا أنقد وارسم وأكتب.. أفعال حسنى لتأكيد الذات. فلا بأس من تفكيك النص وإعادة بنائه.. بحسب “دريدا”..ولابأس من الاستناد إلى مقولات تفتح باب التأمل والتأويل.. ولكن من المعيب أن نعتمد النقد السياحي منهجاً للتسويق ونشر البضاعة المنتهية الصلاحية..أو تعويم الغث على حساب الثمين..!

مرة، سُئلَ الأديب نجيب محفوظ :”مضى الآن على دراستك الفلسفة في جامعة القاهرة أكثر من خمسين عاماً، من هم الفلاسفة الذين ظلوا في ذهنك عالقين حتى الآن..؟

نظر نجيب محفوظ ناحية البحر نظرة عميقة الدلالات، ثم أخرج من جيبه علبة سجائره. أخذ نفساً عميقاً ونفث في الهواء دخانه ونظر ناحية السائل وقال: ديكارت!  ظهرت على ملامح السائل علامات الاستغراب من هذي الإجابة.. فابتسم وأضاف: و”كانط” أيضاً.

قال السائل: هكذا يكون الأمر منطقياً، فإنّ (كانط) من شأنه أن يبقى في الذهن 50 عاماً، أمّا (ديكارت) فيكفيه 50 يوماً.

رائد خليل