ثقافة

 تحت الشرفة

الشرفة التي تطل على سوق الخضار لم تكن عادية بالنسبة له ولا هي مجرد مساحة تتسع لكرسي واحد وطاولة قش صغيرة فقط, لقد كانت مدينة بحالها حدودها بضع بلاطات واتجاه واحد إلى الغرب وعلى خاصرتها حبقة مزروعة داخل علبة تنك.  العلاقة بين علبة التنك عديمة الإحساس وبين الحبقة الرقيقة هي حالة متناقضة تماماً تشبه حياته إلى حد كبير، فهو فوضوي وغير مرتب وثيابه في أغلب الأحيان متسخة، لكنه إذا أراد أن يطبخ فهو ينتبه لأدق التفاصيل ويتبع شروط النظافة ومستعد أن يضع روحه في مقلاة بيض وأن يذرف دموعه كلها من أجل حبة بصل.

إن بيته المستأجر هو عبارة عن غرفة واحدة، الحمام والمطبخ وسرير النوم كلهم في هذه الغرفة والشيء الوحيد المستقل بذاته هي تلك الشرفة التي تعزز إحساسه بالحرية خاصة عند ساعات الفجر حين تدّب الحياة فجأة في السوق, أصوات الباعة وهم يعرضون بضائعهم المقطوفة للتو والواصلين من الزبائن على عجل.. يشعر بلذة وهو يراقبهم من الأعلى دون أدنى شعور بالسمؤولية أو ضرورة اللحاق بالبطاطا قبل أن تنفذ.. إنه مرتاح جدا لكونه وحيداً ولا رغبة لديه في تغيير أي شيء.

بعد أن تهدأ الحركة في السوق أي عند الساعة التاسعة صباحاً، يطفئ آخر سيجارة ويخلد إلى سريره الخشبي الذي تعلوه وسادة من القطن, وفي كل مرة يضع رأسه على الوسادة يقطع وعداً على نفسه أن يأخذها إلى المنجّد فور استيقاظه كي يصلح حالها، إنه الوعد الذي لم ينفذ حتى الآن.

حوالي الثالثة ظهراً، ينهض متثاقلاً، يضع إبريق ماء على النار مع أربع ملاعق من القهوة وينتظرها حتى الغليان ثم يسكبها في كأس كبير, هكذا يحب أن يحضّرها ويعتبر أن أي طريقة أخرى هي تجاوز للأصول، أصول صناعة القهوة.

قبل غروب الشمس بقليل، يلبس ثيابه وينزل إلى السوق كي يشتري شيئا لوجبة الطعام، وجبة واحده في اليوم يدلل نفسه بها خير من ثلاث وجبات “بائتات”. وفي كل مرة يتجادل مع جاره بائع الخضار على أن بضاعته ذابلة كعجوز سبعينية.

“في الحقيقة الحق عليك ياجارنا, تسهر حتى الصباح كل يوم وأنت تراقبنا من شرفتك، انزل واشتريها طازجة كعروس صبية والله أنت غريب الأطوار”. هكذا يرد عليه البائع لكنه وعلى الرغم من ذلك فإنه يشتري ويدفع دون أن يفاصل أو يحسب حساب أي ارتفاع في الأسعار.

بعد أن ينتهي من تناول طعامه، يغسل يديه جيداً ثم يفتح أوراقه ويبدأ بالعمل دون أن يتوقف إلا ليشعل سيجارة أو ليقضي حاجة، ويستمر حتى الفجر أي في الوقت الذي يفتح السوق فيه، وعندها يترك قلمه ويخرج إلى الشرفة ليمارس عادته في المراقبة والاستماع لأصوات الباعة وشجاراتهم مع الزبائن.. هذا كان تسلسل حياته لمدة سبعة أشهر، بعدها لملم أغراضه في حقيبتين كبيرتين وغادر الغرفة بما فيها المدينة التي تركها على الشرفة بكل تفاصيلها، الكرسي الوحيد، طاولة القش الصغيرة، علبة التنك وعلاقتها الغريبة بالحبقة الرقيقة، المطبخ الذي اعتنى به أكثر من نفسه وحرص على نظافته وشروطه الصحية، إبريق الشاي الذي لم يصنع به إلا قهوة على أصولها، السرير ذو الوسادة المتيبسة التي لم يصلح حالها رغم كل الوعود التي قطعها.. هكذا فعل بمملكته الخاصة، تركها للعناكب ولضيف آخر لا مدينة له.

قبل أن يستقل الباص، لمحه جاره بائع الخضار وهو يجرّ الحقائب المنتظرة عند مدخل البناية..” إلى أين يا جارنا، هل أنت متضايق من شيء؟” سأل البائع.

لم يردّ في البداية لكنه وبحكم العشرة الطيبة التفت برأسه إليه وقال : اليوم وعند الفجر أنهيت عملي هنا وما عليّ الآن إلا الرحيل، لقد قضيت في هذا السوق عمرا طويلا من الألفة، قلبت الليل نهاراً وتعرفت على كل واحد مرّ أو سكن هنا, غازلت الخضار من شرفتي ورأيت الحياة تولد كل يوم مع الندى.. ربما هي أحداث عادية بالنسبة لكم، لكنها كانت فصلا جميلا من روايتي الجديدة.

ندى محمود القيم