ثقافة

مـحـطــات حـيـايـتـة

مذكرة

حاول النوم دون فائدة.. راح يفكر بغمامة الصقيع التي راقبها منذ أيام تقترب نحو بيته.. تحتويه.. وتغادره بعد أن أحرقت أزهار الكرز والمشمش.. مساكين هؤلاء.. يعقدون آمالهم على موسم ما.. فجأة؟! يضيع منهم في طرفة عين.. عاد للتفكير في طفله الوليد.. فقراء هذا العالم يولدون والقهر مطبوع في العيون.. ليتابعوا سنّة الخوف والترقب والعجز.. نهض ليبعد أرقه.. حاول جاهداُ أن يهرب من تفكيره اليائس… لم يفلح في ذلك.. عاد ليحزم أمتعته ويستعد للعودة إلى ممارسة عمله في الصحافة بعد أن رأى ما رأى من حياة هؤلاء الناس، تراءت له حمرة الشفق الخابية، المعتكرة، وراء الحقول المعتمة.. وبدا له قمر الهزيع الأخير من الليل، وكأنه منعكس في مرآة مغبشة، أظلمت الدنيا قبل الفجر، ثم صاح الديك مالئاً الدنيا بصوته.

أطل على الأحياء نهار جديد.. حاول مراراً أن يتذكر حياته، كان يحس بضرورة أن ينظم كل ما رآه وخبره في عمره، جهد في تحقيق هذا، وكانت جهوده في كل مرة تذهب عبثاً، فذكرياته كلها تافهة.. فقيرة.. متشابهة، كان كل شيء يتبدى له في لوحات مشوشة متقطعة، ما إن تبدأ تتذكر حياتك بالترتيب بادئاً من الطفولة، حتى تتحد كلها في يوم أو مساء واحد، لا يمت للطفولة بصلة على الأغلب.. ندم أنه لم يستمع لكلمة قالها والده ناصحاً عن حياة هؤلاء الناس، لكنه لم يشعر بعمقها وقدر معناها حتى جرّب أن يتذوق من كأسهم التي يشربون.. لم يعرف إلا حينها أن الكلمة سمكة فضية تنساب من بين الأصابع كالرمل، ولكن هاجسها قاتل.. لقد تعلم درساً.. وسجل ذلك في مذكرته الصغيرة.. أعلن الجرس برنين السفر الرتيب، عن بدء رحلته الطويلة الجديدة وعن انقضاء الماضي، وولادة حياة جديدة تنتظره.

موعد ولقاء

نظر إلى الهاتف المستلقي برخاء على الطاولة الصغيرة.. تهيأ له أن الرنين المنتظم يقهقه ساخراً منه.. توقف الزمن وارتعش الصدى وأزهر الأمل عندما سمع صوتاً ينبئه بخبر لقاء انتظره طويلاً.. عندها شعر بأن الصباح أشرق.. اليوم هو موعد لقائه المنتظر.. للشارع هدوء ليس له حدود، الصمت والسكون يلفان المكان، لا.. بل كل الأمكنة التي اجتازها مشياً وهو صامت.. قلق.. ينصت لهول الصمت الذي يقطعه صوت خطواته. جلس في المقعد الأول للباص.. توغل الخدر عميقاً في كل جسده.. فجأة أدركته غفوة لا يدري سببها.. أبعدها بقسوة.. كل ما يفكر فيه هو الوصول إلى لقائه المنتظر، وكما البرق يشهر ضوءه مخترقاً أكداس الغيم، ظهر شيء أدهشه.. لمع كالنيزك… بشّره بقرب اللقاء.. أحس بنفسه كمن بدأ لتوه بالحبو.. صار يعاني آلام الخطوات الأولى.. يقع، يحاول النهوض.. شيء في داخله يصرخ.. يقف بثقة.. يتقدم بخطوات ثابتة ونظره نحو الأفق المنفتح، طوى كل المسافات التي تفصله عن الوصول، وبلحظة خاطفة وكما الحلم.. وبعد كل ما مر به، انحسر في حيز ضيق ومحدود، نسي كل الألم والمعاناة.. أحس بعرس يقام في داخله، قلبه يتراقص من الفرح، نبضاته تزيد إيقاعها، ونَفَسه يتزايد معلناً الدهشة العارمة، وابتسامة علقت على وجهه لم تبارحه وهو يصافح حياته الجديدة، وكان اللقاء أخيراً، لقد وصل شط الأمان والتقى مستقبله وتابع مسيره غير آبه بالمفاجأة.

أقنعة

الآن وقد صرت بمأمن في غرفتي، سأحاول التأمل بهدوء في ما وقع لي، يستحسن أن لا يدع المرء شيئاً في غموض، غريبة هي أحوال الناس.. ربما غريب هذا الزمن الذي يرزح تحت عنوان “أقنعة مستعارة”، أصبح كلاً منهم يستحوذ على عدد من الأقنعة يرتديها وقت يشاء.. لم يعد أحد يعرف متى يسمع الصدق أو متى يكون وسط معمعة من التمثيل والتظاهر خلف إحدى هذه الأقنعة.. لكن الصدمة تذهب العقل.. تزلزله.. صديقي العزيز.. صحبة العمر.. ذهبت سدى.. اليوم اقتنعت فقط أن الصديق لم ولن يكون صديقاً.. دوام الحال محال هذه الأيام.. أظهر أمامي عدة أقنعة كانت الصاعقة.. كانت الفاجعة.. اعتبرته توءم الروح.. أمنته على أسراري وأشيائي.. كنت شفافاً  كما المرآة.. أظهرت كل شيء دون مجاملة أو زيف.. لكن.. لم يعد ينفع الكلام أو الوصف بعد الصدمة.. اليوم فقط لم أتوقع أن أرى أحداً.. ذهبت كي أجلس في ذاك المكان المظلم.. اخترت طاولة في الزاوية أمام النافذة.. لا أريد إلا خلوة مع نفسي.. لم أعد بحاجة إلى صدمة أخرى.. شيئاً لم أتوقعه.. لمحته في ذاك المكان.. وبجهد يُعجز الوصف أجبرت نفسي على الالتفات نحوه، إذ كنت ما أزال آمل أن يكون الأمر كله تصوراً فحسب.. عدت إلى غرفتي وأغلقت النوافذ والأبواب، أشعر جيداً بأننا لا نجيد أدوارنا، نبحث عن مرآة.. نود أن ننزع التمويه، أن نخلع كل تصنّع.. أن نكون صريحين، لكن لا تزال في موضع منا قطعة تنكّر ننساها، ومسحة تهويل تبقى في حواجبنا، لا نلاحظ أن ملتقى شفاهنا مثني، ونروح ونجيء هكذا متهكمين، ونحن نصف ذاتنا لا حقيقيين ولا ممثلين.. يكفي أن نكون مع أنفسنا بلا أقنعة أو زيف.

تغريد الشيني