ثقافةصحيفة البعث

“أغنية العصفور الدّوري”.. مواجهة الحياة بالفرح أم استسلام لها؟

نجوى صليبه 

كعادته، يبدأ “كريم- رضا ناجي” يوم عمله في مزرعة للنّعام بكثير من الرّضا والحبّ، لكنّ على غير عادته ينهيه بكثير من الخيبة والألم، فهروب إحدى النعامات يتسبّب بطرده من العمل وينذره شؤماً على حياته وحياة أسرته، إذ يعود إلى المنزل ويشاهد الأطفال وقد نزلوا في البئر، محاولين العثور على جهاز السّمع الخاصّ بابنته، فيؤنّبهم على مخاطرتهم هذه، وفي الوقت ذاته، يطلب مساعدتهم، لكن يعودون جميعاً بأيدي فارغة.

في اليوم التّالي، يذهب “كريم” على دراجته النّارية إلى المدينة، لإصلاح جهاز السّمع، ويُصدم لكونه سيضطر لشراء آخر بثمن مرتفع، يخرج من عيادة الطّبيب حزيناً، ويجلس على دراجته، وبينما يفكّر بحالته المزرية وبكيفية تأمين ذاك المبلغ، يصعد خلفه رجلٌ ويطلب منه إيصاله إلى مكان ما، في البداية يتردّد بحجّة أنّ هذا ليس عمله، لكنّه لا يجد مفراً من ذلك، فيوصله ويعطيه الرّجل أجرته، ليكون هذا الموقف بداية عملٍ جديد، يخرج إليه كلّ يوم، ويبدأ بالتّعرّف على إيجابياته ومشكلاته، ويلاحظ أنّ راتبه الشّهري من المزرعة لا يصل إلى نصف ما يحصّله من عمله على الدّراجة خلال أيّام، لكن زوجته تلفت عنايته إلى أمر خطر وهو أنّ الدّراجة قد تتعطل في يوم ما، لذا عليه أن يجد عملاً دائماً.. تخوّف لا يعيره أهميةً كما فعل عندما علم بإعطائها الباب الأزرق لجارتها، إذ يذهب ويستعيده من دون خجل، ويضعه في باحة المنزل المملوءة بخردة جمعها ليصلحها ويستفيد منها، لكنّها هي الأخرى تعطّله عن العمل بعد أن توقعه بدهاليزيها وتكسر ساقه، فيضطر للجلوس في منزله، وقبوله بما لم يكن يقبل فيه سابقاً، من عمل زوجته في الخضراوات ومساعدة جاراتها لها، وعمل طفله، ليس هذا فحسب، بل إنّه رأى بأمّ عينه كيف أنّ الجيران سطوا على خردته، في مشهد يذكّرنا بفيلم “زوربا” للمخرج “مايكل كاكويانيس”، تحديداً مشهد احتضار المدام “هورتانس” أو “بوبولينا” كما كان يحبّ “زوربا” مناداتها، في ذلك المشهد تتسابق النّسوة إلى رمي بعض أغراضها والاستيلاء على بعضها الآخر، ولاسيّما الملابس المغرية التي كنّ يشرن إليها بأصابع الازدراء والاتّهام.

يقدّم لنا المخرج مجيد مجيدي في فيلمه “أغنية العصفور الدّوري”، الذي عرضه مشروع “بيت السّينما” منذ أيّام في سينما الكندي، وجبةً دسمةً من التّناقضات والبساطة والدّروس الحياتية المجانية، ففي الوقت الذي يكون فيه “كريم” بأمسّ الحاجة للمال يرفض الحصول على ما ليس له، فيعيد للركّاب المبلغ الزّائد عن أجرته، كما يبحث جاهداً عن مستودع الأدوات الكهربائية ليعيد ثلاجةً تاه فيها عن المجموعة، على الرّغم من أنّه فكّر للحظة ببيعها، ومقابل ذلك وبحسن النّية لا بسوئها، يحاول أن يساعد فتاةً صغيرةً -توقّفت بجانبه مع توقّف إشارة المرور- بمبلغٍ قليلٍ من المال لا يجد في جيبه إلّا الأوراق النّقدية ذات القيم المرتفعة، فيذهب من دون أن يقدّم لها شيئاً، وتسير السّيارات وتسير درّاجته ويعود إلى منزله ليجد الأولاد يلعبون في البئر ويحلمون بتربية الأسماك وبيعها من أجل الحصول على المال، فيقرّر هدم البئر ليتخلّص من خوفه، لكنّه يرى عصفوراً دورياً يعشعش فيه، فيعدل عن قراره، لينقذه هذا العصفور مرّة أخرى من دوّامته، فبينما يتمدّد مستسلماً لألم قدمه المكسورة كما حاله، يفتح عينيه على صوت الدّوري وهو يتخبّط داخل غرفته فيفتح له الباب، ومع خروجه يسمع صوت صاحب مزرعة النّعام وهو يبشّره بعودته إلى العمل مع عودة النّعامة الهاربة.

ظاهرياً، يعتمد مجيدي على البطل الواحد، لكنّه فعلياً يعتمد على بطلين هما “كريم” والنّعامة التي لا تفارق تفكيره ومخيلته في كثير من المشاهد، إذ يرى بيضة النّعامة في أحد المحلات التّجارية، ويسمع أبناءه يتحدّثون عن البيضة التي عثرت عليها جارتهم في فناء الدّار، وفي المشهد الأخير من الفيلم نرى النّعامة وهي ترقص رقصة التّكاثر، معلنةً بدايةَ حياةٍ جديدةٍ ونهاية الفيلم في آن معاً.

وعلى الرّغم من كون الفيلم اجتماعيا وإنسانيا بحتا وتغلب عليه التّراجيدية، لكن لا يجد المخرج والمؤلّف ماجد كاشان مهران ضيراً من مرح يأتي بانسيابية وخفّة وبشكلٍ غير مبتذل، كما في المشهد الذي يجرّب فيه “كريم” جهاز السّمع ويطلب من ابنته عدم النّظر إلى شفتيه عندما يتكلّم، لنشاهد في الطّرف الآخر والدتها وهي تحرّك شفتيها بالكلمات ذاتها، كذلك الأمر في مشهد بحثه عن النّعامة، نراه مرتدياً زيّاً يشبه شكل النّعامة ويتحرّك مثلها.

يتنقّل مجيدي بين الرّيف والمدينة بخفّة ومهارة، ويجيد نقل صورة حقيقية عن كليهما من حيث الحياة الاجتماعية والخدمية والإنسانية والمعيشية والعلاقة بينهما، كذلك يفعل في الانتقال من مشهد إلى آخر، نذكر مثلاً عندما يستعيد “كريم” الباب الأزرق، ويحمله على كتفه، ويسير به في الحقول الواسعة، وعندما تصبح عدسته على سماء صافية تزّينها نجوم متفرقة، نكتشف بعد ثوانٍ قليلة أنّ اللقطة ليست لسماء صافية بل لغطاء تطرّزه الأمّ.

وبالحديث عن كثرة اعتماد مجيدي على الرّمزية في هذا الفيلم، يشير البعض إلى النّعامة فقط من حيث أنّها مستسلمة، وتدفن رأسها بالتّراب، وليس بمقدورها العيش من دون القطيع، متناسين أنّ عنوان الفيلم يحمل اسم طير نشيط مظلوم هو الآخر في الحياة البرية والإنسانية، من حيث أنّه لقمة سائغة للطّيور والبشر الذين يصيدونه ويأكلونه مشوياً، وإن أردنا الإسقاط أكثر، سنجد أنّ “كريم” في سعيه ودأبه كالعصفور الدّوري، كذلك الأولاد في مساعدة أسرهم وألعابهم وأحلامهم، وحزنهم على الأسماك التي سقطت من البرميل المثقوب، إلّا واحدة استطاعوا إنقاذها ووضعها في البئر الذي يصير مأوى كلّ جميل.