ثقافة

صلاح داود.. الضائع بين لعنة الفرعون الذهبي وحمم المتنبي

في محراب الشعر، وعلى سرير التاريخ، ولحظة جلوس اللا منطق على حافة الضياع، أجدني حمامة تائهة تلاحق لعنة الحبر.. وحمم الموت.
لعلّني أجد  مابين لعنة الفرعون الذهبي وحمم المتنبي.. هالة من الأسرار و قصائد هاربة من عالم الغموض تحث استنفار الأضداد في بدن الشاعر العربي التونسي صلاح داود الذي  تحمله شهوته السريالية إلى هؤلاء الذين مضوا منذ آلاف السنين، كصقور الشمس،وثعابين الجمر، فكان حضور الشعر فسحة للخلود، وكسر القفل باب السر الأكبر الكامن في وادي الملوك.. يبدو لنا هذا الشاعر العروبي التونسي لم ترهبه إنذارات الفراعنة: “سيذبح الموت بجناحيه كل من يحاول أن يبدد أمن وسلام مرقد الفراعنة” حيث رقد (توت عنخ آمون) الفرعون الذهبي والملك الطفل الذي أبهرت كنوزه العالم..
بين حمم الصمت ودهشة مدرب الروح وبين قصيدة الرعب وجنون بلا مدى؛ ذاك هو موضع مقاربتي في ديوان “قصائد هاربة”.. ألْحَظُ  ما لَحَظَه  رولان بارت:”في كُلِّ لفظةٍ للشعر الحديث يرقد نوع من الجيولوجيا الوجودية حيث يتجمع المضمون الكلي للاسم لا مضمونه الانتقائي”.
هنا تكون مجموعة قصائد أرهقتني” المؤلف من159  صفحة من القطع المتوسط، والعنوان العريض هذا يترجم لنا رحلة الشاعر التونسي “صلاح داود” عبر مفاصل الحياة اليومية وفي تفاصيل الوجع الإنساني المائل إلى لهيب العشق للنور عبر نوافير الأحلام التي تهدهد في صمت براكين الأعداء والتي اتسمت بها قصائد الديوان الصادر عن مطبعة (بريما)، والمعبَّأة بالألفاظ ذات المرجعيات المتوزعة في الذاكرة الجمعية، ويعيد تفجيرها دلالياً، ويستعيد الكثير من الخزين المعرفي ليجدد موقفاً إنسانياً رافضاً للفوضى والعبث ببيت القصيد.
هذا الديوان هو حصيلة رحلة ذات تمزّقتْ فيها الطرقات.. وتمردت عليها أرجل المتعبين في الأرض، فيض من أحاسيس وتجارب وتأملات  في من أمْطَرَتْهُمُ السماء فسفورا أبيض..و(كرماً) من فيض الديمقراطية، والذي يعد بوصلة نوعية تحدد لنا جهات الإحساس الهارب من طواحين الخيانات لما يحمله من قصائد متدفقة الينابيع في القصيدة الهاربة من مخلفات الهوان العربي، والسكوت المفضوح من أولياء الأمور، وفي مداها الشاعر يكتب  شعراً احترافياً بمهارة عالية، لذلك- نراه سابحا-يصلبه السؤال حول كينونة الدهشة التي ركبهاعابرا إلى زمن الفراعنة في سدور يسكب خمر المعنى ليسقيها إلى قارئه لعله يتذوق نبيذها الأبدي، ويفتح له في الرّاح نهر المُدام، ويشده شداً إلى عالمه الشعري الساحر، ويجذبه جذباً إلى متاهاته وتضاريسه الوعرة، فيجد نفسه مغرماً بالغوص في آلامه العميقة ولم يتمكن من فصل ذاته عن تلك الذات الشهيدة التي حكم عليها بالإعدام في ميدان القلم والمِبْراة، كي تفاجئه بأنها صهرته بها وتميس به كما يميس الزئبق في باطن اليد.
ويفتتح المجموعة بـ أنا.. تلك العصا المتماهية في شرايين الأمة.. والمشبعة بضجيج الموتى وبصراخ من قضموا لسان الجمر، وعضوا على الأشواك ومن خطوا رسالة استعجالية  إلى أبي الطيب المتنبي وفيها نلمس حالة من الاغتراب والصراخ في عالم محصور في غرفة اللهب وعلى أرض محمومة يصور ما أريق من دمٍ في أمة العرب..ويقول فيها:
حتى البحارُ بهامنا فُلِقَتْ..
اصطفَّتْ الحيتانُ تزدحمُ
مـاذا…؟؟
ماذا أداوي اليوم من وجعي؟ ص-11
يلمح للقارئ من بعيد ولا يصرح باسم القاتل ، برأيه القاتل واحد، لذلك يظهر بصورة شعرية قوامها الغموض الدال والمستوعب طبيعة الصورة الإشارية الرمزية القائمة في الشعر، وهي الصورة –الرؤيا – بنمط خاص من البناء الشعري القائم على المزج بين المتناقضات والتوحيد فيما بينها من داخل الرؤية الشعرية والتي تكسر حدود القهر والحواجز الموجودة  بين أبناء الأمة ووجودية الإنسان، وبين طبيعة الأشياء في العالم الكوني.
تشكل الكتابة الشعرية في ديوان “قصائد هاربة” للشاعر داود في صيرورتها انزياحا جماليا وإبداعيا ملفتا يؤسس صوره الشعرية وبحره من خلال استخلاص أنفاسه المحبوسة في روح زهوره ويحمل صورته مرتديا قلادة الملك (توت) التي يضمرها الديوان ككل وبرؤية خلاقة ومحبوكة تستعير تشكيلاتها من خلال تفاعل الأنا مع أنينها والذات مع ذاتها، ومع الحياة ومع الوجود هو تفاعل يطبعه هاجس القبض والبسط  من صورة إلى أخرى كما القلب دائم النبض من شكل إلى آخر، لكأنه يخشى أن تصيبه لعنة الفراعنة رغم اعترافه أنه أصيب بـ “شهوة سريالية مابعد..سقوط بغداد”..ولم يعد  يرى بالإنسان مخٌ يدبّر أمراً؛إذ قال:
كأنْ لم يعدْ في الصدور قلوب
ترفرف عشقاً  وضوءاً ونوراً..
كأنْ لم يعدْ في الجماجم مخٌ
يدبّر أمراً ويحمي مصيرا
كأنّ الزمان زمان المواشي
هواها تلوك الفطيرا ص-44
وعلى الرغم من هذا، فهو دائم الانفلات من قبضة الزمن لكأنه يخشى سجن الوقت وزنزانة المكان.
من هنا يستقي الشاعر التونسي صلاح داود في زمن اللامعنى إلهامه الشعري من رحيق النار، وبئر المعاني المخبوءة في سر موت آمون وماخلف غواية السحر الفرعوني..!
وتتمظهر الاستعارة الفرعونية بالقدرة على إدراك قيمة الأخذ والاستدعاء والتوظيف والتضمين،إذ ليس وظيفة ديكورية بقدر ماهي وظيفة فاعلة مشاركة في إنتاجية دلالية ذات مغازٍ تثري النص ولا تنفصل عنه،وتترك الأثر في تنوير المتلقي وجذبه للتفاعل  وفك شفرة قصيدة الوسخ..القصيدة الهاربة:
هي أمّي ترتجيني.. لا رجاءُ
وهي أختي “شَلَمُونٌ” قد نَهَك
وهي بنتي أطفأ الهُمْج سناها
فتّتوها.. دمُها الطُّهْرُ بِركْ –ص23
وبما يحقق الوصول إلى ثعابين الجمر المرتبطة ببؤرة مركزية جاذبة  ترتبط فيها كل الوحدات العضوية الشعرية وتتوحد بجذر شعري واحد بها،لندرك ما قد أدركه عرّاب الحداثة  الشعرية “تي سي أليوت”حينما قال:أنا لا أؤمن بشعرٍ جديدٍ مطلقاً، لأنّه سيكون رديئاً.. الشاعرُ العظيمُ هو الذي يذكّرك بسابقيه”، هنا يتجلى المفهوم أو السياق المرجعي إلى تلك القصائد الهاربة في سماء هذا العمل الشعري الذي أرهق الشاعر صلاح داود وتداخل مع ما قبله وشكّل فسيفساء تتجلى في تفاصيلها عُواءَ الماءِ بالنار، ورغوة الذل العربي المزينة بنياشين الخيانة،وزُعاف السُّمّ كيف يُسقى  في حضرة ذات الجلالة لمن يمتطي أجنحة الحقيقة.
لذلك كانت هذه القصائد الهاربة  تحمل رسائل  القلم المثقف في صراعه مع الثقافة المتسلطة،منطلقة من تعالق فكري وتفاعل وجودي ملتزم إزاء القضايا الإنسانية الكبرى وهكذا ينطلق بنا الشاعر صلاح داود من الذاتية المفرطة إلى الصوت الجمعي، ليكون عنصر تغيير ونقطة تنوير وسط فوضى الوجود دون التعكز على لمسات المكر في هواجس اللغة، وعبثها المتوثّب حين تحتضن حمامة السلام  بجسدها المرمري الأثير.. وندرك أن الشعر مازال مُهمّاً، مهما كان الوقت المخصص لشاعر بائس حزين، أو حتى لو سجلوه ميتا في سجلات الثقافة الانتهازية، فالشاعر الحقيقي،هو المشغول دائماً بقضايا الوجود قد تجاوز لعنة الجاذبية المادية والظهور، ورسالته رسالة أخلاقية تخترق الزمان والمكان، لأنه المدرك أن الحقيقة الغائبة الحاضرة لا تتعدى حفنة من الطين في قبضة جبار مقتدر يقول للحرف: كن فيكون.
أحلام غانم