ثقافة

“العالم”.. ليس نظاماً ميكانيكيّاً ميّتاً

ما قاله “غريغوري بيتسون” قاله “فروم” بالمنحى السيكولوجي من المسألة، بأنّ: “الإنسان عبارة عن نظام كالنظام البيئي أو السياسي، أو نظام الجسم أو الخلية، أو نظام المجتمع أو المنظمة. ولدى تحليل طبيعة الإنسان نفهم أنّنا نعالج نظام قوى وليس بنية ميكانيكية لجزئيات سلوكيّة، ولنظام الإنسان، كأي نظام تماسك شديد في داخله. ويبدي مقاومة كبيرة للتغير، وفضلاً عن ذلك، فإن تغير مفردة فيه يُزعم أنها “سبب” مفردة أخرى غير مرغوب فيها لن يُحدث أي تغيير في النظام في كليّته. وإضافة  “فروم” الكبيرة، أنّه عمّق التحليل النفسي بالمعنى الاجتماعي، حيث حلّل البنية الخاصة للإنسان انطلاقاً من تشابكاتها وتقاطعاتها مع النظام الاجتماعي .وهذا ما لم يفعله “فرويد ويونغ” ففي كتابه “فنّ الإصغاء”  يقول “فروم”: والرأي عندي أن التحليل الاجتماعي والتحليل الشخصي لا يمكن أن ينفصلا، إنهما جزء من الرؤية النقدية لواقع الحياة الإنسانية. وفي دراسته للبنية الاجتماعية يؤكّد على أهمّية العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية والنّماذج الثقافية. كما ينبّه إلى الدور التوجيهي لما يسميه “الطبع الاجتماعي” في تكوين “الطبع الفردي”. إذ على المحلل النفساني لكي يفهم الإنسان ألا يكتفي بدراسة علم النفس، بل ودراسة منظومة متكاملة تشمل: التاريخ، وتاريخ الأديان، والأسطوريات، والرمزية والفلسفة وكل منتجات الذهن الإنساني. كما أوصى المحللون النفسانيون بالاطّلاع على الآثار الأدبية لرموز العصر مثل ” بلزاك ودستويفسكي وكافكا وغيرهم، لأنهم سيجدون فيها التبصّر العميق لبنية الإنسان وآلية تفكيره وسلوكه. هذه الرؤية “الفروميّة” ارتكزتْ بأساسها على نظرية “الأنظمة الحية” التي  ميّزته عن غيره من المحلّلين النفسيّين التقليديّين الذين اقتصروا على المعالجات الجزئية للظاهرة النفسيّة. فمفهوم الشخصية الإنسانية أو المنظومة أو النظام لديه، ليس المجموع الكلّي للأجزاء وحسب، بل هو عبارة عن بنية كليّة متماسكة. ويمكن لنظرية “الأنظمة الحديثة” التي اعتمدها، توضيح الفكرة. ترى هذه النظرية بأنّ التّنظيم الذاتي أو الاستقلال الذاتي هو علامة الحياة الفارقة.  التي يمكن دراستها في سياقات متعددة . حيث يدرسها “هومبرتو ماتورانا وفرنشيسكو فاريلا” على مستوى “الخلايا”. ومدرسة ميلانو على مستوى “الأسرة”  و”نيكولاس لومان” على مستوى “المجتمع”. حيث اكتشف العلماء بكلّ هذه المستويات، الأنظمة الحيّة والكليّات المتكاملة. التي لا يمكن اختزال خواصّها إلى جزئيّات أصغر. وهذا يعني توجّه التفكير باتجاه السّياقات والعلاقات المتشابكة والنّماذج والصّيرورات، فالأنظمة الحيّة ليست كما درج التراث العلمي التقليدي على اعتبارها “طوليّة” النّمو، بل هي منظومة شبكات. وماهية الحياة فيها تقوم على ربط هذه الجزئيّات، وترتيب العلاقة بين الصّيرورات البيولوجيّة، فالكائن الحيّ يحدّد بعلاقته مع بقيّة الكائنات، وخواصّ الأشياء تنبثق من علاقاتها، ورؤية العالم من منظور هذه النظرية هي رؤية “هوليسية” أيّ كليّة، ولكن ليست الكلّيّة التي هي مجموع الأجزاء وحسب. فالكلّ فيها هو مجموع من “الكلّات” الأكبر. والنظام الحيّ الأكبر هو الأرض.

ولتوضيح مثل هذا الإسقاط  لتطبيقات النظرية في مجالات علم النفس يوضّح “فروم” ذلك بمثال واقعي حيّ وبسيط نعيش نتائجه السلبيّة، بقوّة في مجتمعاتنا: كانت الفكرة الشّائعة هي أنّ تغيير الوضع في حيٍّ فقير يتمّ  ببناء مساكن أجود، فما الذي يحدث؟ بعد ثلاث سنوات أو خمس تكون هذه المساكن الجميلة الجديدة قد صارت مثل القديمة تماماً، لماذا؟ لأن التربية بقيت نفسها ـ والنظام الأصلي قد نما فوق هذا التبدّل الطّفيف، حيث اندمجتْ هذه الواحة الصغيرة بعد فترة في النظام الكلي المتجذر. والتغيير الحقيقي يتمّ بتغيير النّظام الكلّي المسيطر. الذي يتطلّب بدوره تغيير “الدّخل والتربية والصحّة ومعيشة الناس كلياًّ وكذلك دور السكن”. لأنّ تغيير الجزء ليس كافياً، فالنّظام الكلّي الرّاسخ، يعاند بقوّة مدافعاً عن بقائه حياً. وتلك هي مشكلة البنى الاجتماعية في مجتمعاتنا. وبالتّحديد في التّجمّعات العشوائيّة السّرطانيّة. حيث نرى تبدّلاً بواجهات البناء والسكن واقتناء السّيارات الحديثة، وغيرها من مظاهر الاستهلاك الكثيرة والأبّهات الفارغة التي تعكس فساداً فظيعاً وتسوّساً في القيم والعلاقات الاجتماعية والأخلاقية، لا يقابله تطوّراً حضارياً في القيم والعلاقات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية، لأنّ المنظومة القديمة مازالت معشّشة في النفوس ولم تتبدّل. والذي تبدّل فقط  هو مظاهرها الخارجيّة. فالفرد هو نظام أو بنية. ولن يحدث فيها التغّيير المطلوب، ما لم يحدث التبدّل الأكيد في نظام الشخصية وبنيتها، وذلك يشمل طريقة التفكير والعمل والسلوك والإحساس وكلّ شيء. “إنّ خطوة متكاملة واحدة أهمّ من عشر خطوات لا تسير إلا باتجاه واحد”. وهذا ما نراه جليّاً في التّغيير الاجتماعي حيث لا نرى أنّ إحداث تغيير جزئيّ أو تغييرات جزئية كثيرة يترك أثراً يذكر. بل قد يُعاد تشكيل وإنتاج المنظومة السّابقة المستنسخة من القيم ذاتها. كما حدث في مجتمعاتنا العربية. وعودة لداء العصر المستفحل الذي هو “القلق” الاستحواذي، كما سمّاه “فرويد” لا نرى أيّة أعراض واضحة له، بل نلمس شعوراً دائماً، بعدم السعادة والغربة والأرق وانعدام الطّموح، وبأنّ الحياة لا معنى لها ولا لذّة فيها. فما الذي نرتجيه من التّحليل النفسي تجاه ذلك. في الواقع لاشيء. إلّا إذا توجّهنا إلى تحليل الطّبع كليّاً، لا تحليل الحالة العارضة وحسب. فهو يمكن توصيفه العلمي بأنّه حالة الناس الذين يعانون من أنفسهم، مع أنّهم يملكون كلّ شيء بمعنى ما. إذن لابدّ من تغيير جذريّ كلّي في الشخصيّة والطّبع، لأنّ البنية ذاتها لها تماسكها الصّلب الذي يرفض الانصياع، ويميل إلى الدّفاع باستماتةٍ عن وجوده الحيّ هو الآخر بشتى الوسائل الممكنة.

أوس أحمد أسعد