صالح علماني.. يا جبل ما يهزك ريح
عندما نستعرض أسماء المترجمين العرب للأدب العالمي باختلاف منابعه وتنوع الهويات التي يحمل مضامينها، ومن قاموا بنقل أهم الأعمال الأدبية إلى القارئ العربي،-الأدبية عموما والروائية بشكل خاص، باعتبار ترجمتها واحدة من أصعب أنواع الترجمة الأدبية-، سواء منذ منتصف القرن الماضي وصولا إلى مطلع الألفية الثالثة، سنجد أن ثمة العديد من هذه الأسماء بل الكثير منها، تكتظ بترجماتهم البائسة، دور نشر عاطلة عن الأمل، وكتب تمت ترجمتها في مؤسساتنا المختصة، من قبل بعض “المترجمين” الافتراضيين، الذين لا تاريخ لهم في هذا العلم والحس الوجداني أولا، ولا تجربة سابقة وحقيقية تحسب لهم في معرفة القراء لمهاراتهم، حدث هذا بعد أن تنطع العديد من الأشخاص الذين درسوا في الجامعات لغة أجنبية ما، إلى العمل بالترجمة، التي بدت الأسهل لهم، عدا عن كونها–أي الترجمة- هي التي يبدأ فيها حياته الأدبية والفكرية، قبل أن ينتقل من باقة المترجمين، ليحط في باقة الأدباء!، ولكننا عندما نستعرض أسماء المترجمين المبدعين، الذين تركوا بصمتهم الخالدة في هذا المجال، وعلى مدى أجيال عدة، سيتم الاتفاق فوراً على كل من المترجم الكبير السوري “سامي الدروبي”-1921-1976- والمصري “أبو بكر يوسف” والمترجم الفلسطيني السوري “صالح علماني”-1949- الذي برع بل أجاد وأبهر في نقله للرواية الأمريكية اللاتينية إلى الأدب العربي، بعد أن أمضى ربع قرن في دراسة هذا الأدب ومعرفة خفاياه، وفك رموزه وأسراره التي جعلته يأسر العالم، وها هو”صالح علماني” ومنذ سنوات طويلة، ينقل للقارئ العربي أهم ما جاد به هذا الأدب وعلى لسان كبار صانعي مجده “ماريو فارغاس يوسا، غابريل غارسيا ماركيز، جوزيه ساراماغو، إيزابيل الليندي” وغيرهم من الأدباء الذين لم يكن يسمع بهم أحد في المنطقة العربية إلا أهل الحظوة والثراء، وهم كما يقال (شغلوا الناس وملؤوا الدنيا خارجا)–هذا طبعا قبل التطور التقني في عالم الاتصالات الرقمية- حيث بقيت الأعمال الأدبية لأدباء أمريكا اللاتينية،التي تحمل ترجمتها اسم “علماني”، بقيت هي الفائزة بثقة القارئ العربي والمحلي، وما إن يتم السؤال عن رواية لاتينية حتى يحضر السؤال إن كان “علماني” من ترجمها أم لا، حتى أن النصائح التي سيوجهها قارئ عتيد إلى قارئ مبتدئ، ستكون واحدة منها (لا تقرأ الأدب اللاتيني إلا مترجما من قبل صالح علماني”.
الرجل لديه تلك المقدرة المذهلة في الولوج إلى مكامن الجمال في العمل الأدبي، والعمل ببراعة صانع ساعات عتيق، على انتقاء المفردة الملائمة أو المفاضلة بين مجموعة من الصيغ اللغوية التي اختارها لعبارة ما، فالأدب اللاتيني الذي كرس علماني حياته له، له العديد من المزايا المبهرة والمفاجئة التي تميزه عن غيره من الآداب، إن كان بغرائبيته التي ينتجها التمازج حدّ التماهي بين الواقعي والمتخيل، وبجنوحه نحو الأسطورة والحكايات والشعر الذي بدأت منه كل هذه الحكاية.
ولنشهد على هذه البراعة في رواية “الحب في زمن الكوليرا” ننقل شيئا يدل على الحركة الخفية للشعر، التي يلتقطها “علماني” بخفة ورشاقة، وذلك عندما يدخل الطبيب والمتدرب لفحص جثة الرجل المنتحر، حيث يخبر المتدرب الطبيب، بأن المنتحر، لا بد وأنه مات من الحب، ليجيبه الطبيب بجملة لن ينساها من عبرت رأسه أبدا:”لا ليس سبب الانتحار هو الحب، فالمنتحرون حبا، تجد في قلوبهم عادة حفنة رمل” أي براعة ورشاقة وخيال، وأي التقاط خبير للفكرة لجعلها بمثابة ضربة مخلب شعرية هائلة تحسم هذا النقاش، غير العلمي، بشأن علمي بحت؟!.
طبعا قام “علماني” بترجمة العديد من الأنواع الأدبية الأخرى ومن العديد من اللغات الحية والمتراجعة، لكن نجمه الذي سطع أبدا، فسببه عمله المضني بالترجمة الروائية، التي تضم بين دفتيها ما تضم من باقي الأجناس، كالشعر والقصة، والشعر هنا أو “القفلات” الشعرية والشطحات العالية للشعر عند العديد من الروائيين الذين يعرفون القيمة الفنية، التي تتركها جملة شعرية، في صياغات لغوية متعددة، سواء كانت بحديث متبادل، أو بوصف للزمان والمكان والشخصيات، أو حتى بالحالة التي يذهب الروائي منها إلى إدخاله الشعر في نسيج “الحدوتة” وكأنه منها.
“صالح علماني” المترجم والأستاذ الذي كان يخبر طلابه ومريديه، بضرورة أن يبقى المترجم في الظل فلا يظهر، منذ مدة قريبة ثارت ثائرة هذا الرجل الوطني العريق، وهذا المحب البلدي الأصيل، على كل من وضعه على لائحة “العار” التي تليق بمن وضعها لو نظر في مرآة فقط، أيضا كان له هجومه الحاد على إحدى دور النشر التي خدعته، بعد أن ترجم لها “علماني” العديد من الروايات والكتب، ليكتشف فيما بعد، أن تلك الدار لم تقم بأخذ موافقة أصحاب الشأن نفسه، والأخلاق التي تشبعت بها روحه المرحة، لم تقبل بهذا التزوير والضلال غير الأخلاقي، فما كان من بعض “صحفيي” الغفلة وتجار الكلمة، إلا التهجم على شخصه النبيل وقامته الأدبية والعلمية الكبيرة، إلا أن جملة كتبها له أحد محبيه قال له فيها “يا جبل ما يهزك ريح”، وهي جملة في مكانها تماما.
تمّام علي بركات