ثقافةصحيفة البعث

محمد عضيمة: المشهد الثقافي في سورية يدعو إلى التفاؤل

 

عديدة هي المنازل الشعرية التي أقام فيها الشاعر السوري “محمد عضيمة”، لكنه سرعان ما أصابه الملل من كل تلك المنازل، التي يرى أنه من الواجب تجاوزها بل ونسيانها، معتبرا أن هذا ليس زمن المطولات الشعرية، حتى في قصيدة النثر التي لم تتبناها الحياة الاجتماعية العربية برموزها حتى اللحظة في الحياة العامة، بينما بقيت متمسكة، بالشكل الأقدم، حتى أنه يعتبرها  من العوائق أمام اجتراح شكل شعري مغاير ومكثف، شخصاني جدا، لكنه خلاصة تجربة للجميع، ببضعة كلمات يحمل مدلولاها اللفظي وسياقها التقني حالة، ليست عظيمة بالضرورة، ولكنها موجودة، محمد عضيمة الشاعر السوري الذي قال: “لن تتجاوز الحداثة العربية مأزقها إلا بالتخلص من فقهاء اللغة ودعاة أوهام الخصوصية والهوية والأصالة. ما أدعو إليه هو التخلّص من أوهام الثقافة التوحيدية وهدم الجدار السميك للذائقة التقليدية إلى أن يتصدع”، معه كان هذا الحوار.

لتكن بدايتنا من الهايكو القصيدة التي يريد الجميع كتابتها، بالنسبة لك كشاعر نهل هذا النوع من الشعر من منشأه، وبعيدا عن تعريفه السائد، ما هو الهايكو من وجهة نظرك الشعرية؟

على حد علمي ليس هناك تعريف سائد لهذا الشكل الموجز من الكتابة الشعرية. هناك تعريفات له بعدد الذين يمارسون كتابته وبعدد قصائده، ونطلق عليه بالعربية أو الفرنسية أو الانكليزية لفظة “هايكو” تجاوزا. لأن الهايكو، كما أرى ويرى معي كثير من الشعراء اليابانيين، لا يحقق شروطه بغير اللغة اليابانية، وهذا ليس انتقاصا مما يكتب بالعربية على أنه هايكو، بالعكس هناك مقاطع، أو تغريدات، تتفوق على الهايكو الياباني. فلمَ إصرار الشباب على التمسك بهذا العنوان. اقترحت منذ البداية، وما زلت أقترح، ترجمة لفظة هايكو إلى العربية بلفظة: “تغريد، وجمعها تغاريد” أو تغريدة إذا صح التأنيث. لأن التغريد هو من عالم الهايكو، في التغريد بث إيجابي، إرسال خفيف وفرح، حس الفكاهة والظرافة، بأقل ما يمكن من الوقت والكلمات. وهذا بالضبط المعنى الحرفي لكلمة “هايكو” اليابانية: عبارة ظريفة، فكاهية، ممتعة، مثيرة للابتسامة والسعادة.

اليوم وأكثر من أي وقت مضى، هناك توجه عام وكأنه حالة معدية، نحو قصيدة الهايكو، كيف ترى هذه الظاهرة الأدبية في البلد؟

ظاهرة إيجابية بامتياز ستفتح الباب لظواهر أخرى أكثر إيجابية.

تقنية قصيدة الهايكو، تقنية رشيقة رشاقة منبتها، فكره وطبيعته، وثقافته، والخلاف لم يحُسم لدينا بعد بالنسبة لقصيدة النثر، إن كانت قصيدة مقارنة بقصيدة العمود أو “نُثيرة” كما سماها أحد الشعراء الكبار، ورغم ذلك، هناك الكثير ممن لا يجدون ضالتهم لا في هذه ولا في تلك، بقدر ما يجدونها في “الهايكو”، ما السبب؟ هل السر في السهولة التي تبدو عليها قصيدة الهايكو أم يوجد ما هو غير ذلك؟

الناس تعبت، ملت بسرعة، من ألغاز وأحاجي الشعر الحديث، بشقيه النثري والتفعيلي. ليس هناك شاعر عربي حديث واحد سهل على القارئ العربي، هذا القارئ الطيب، البسيط، شبه الأمي تقريبا، يُعتدى عليه بمطولات لغوية محشوة بالأساطير والسياسة والجنس والتاريخ ومليون حكاية استعارية ومجازية. وكل ذلك بحجة:”لماذا لا تفهمون ما يقال”، لصاحبها أبو تمام. لقراءة قصيدة من الشعر الحديث، لأي شاعر كان، تحتاج اليوم إلى قواميس في علم النفس والفلسفة والتاريخ والجغرافيا وعلم اللغة وما شابه، فمن لديه الوقت اليوم لكل هذه الكتل والمخازن اللغوية، باختصار لا أحد وإن وجد هذا الأحد فسيكون من فلول العصر الميتافيزيقي للشعر العربي، وبسبب ذلك يميل الجيل الجديد من الشعراء إلى التغاريد القصيرة، البسيطة، الحسية، الواضحة بذكاء، المقروءة فورا، بعيدا من مفاهيم المباشرة. لا شك أن قصيدة الهايكو، وبسبب قصرها، تشكل إغراء حقيقيا للكتابة، لكن من يمارس كتابتها، سرعان ما يكتشف أن الأمر ليس كذلك. لأن حجمها لا يتيح التخفي وراء أي شيء: إما نجاح واضح أو فشل واضح.

كتبت دراسات نقدية عديدة في قصيدة “الهايكو” التي تحترفها، وكان لكثير من هذه المقالات ثقل نوعي فعلي في التعريف بقصيدة الهايكو وبما يُرتكب من أخطاء كبيرة في حقها، هل هذا وفاء للقصيدة التي تحب؟ أم أنه نوع من تقويم اعوجاج في النوع وفي التعبير عنه؟

لا أعتقد أنني كتبت حول الموضوع أكثر من مقدمة كتاب الهايكو الياباني المطولة، وبعض الآراء هنا وهناك في المواقع والصحف. ولكن للدقة أكثر، يمكن اعتبار مقدمات ديوان الشعر العربي بأجزائه السبعة تلامس موضوع الهايكو/التغريد بشكل أو بآخر، أو هي جزء من القضية. لأن دفاعي عن الصيغ الموجزة في الشعر، هو في الوقت نفسه دفاع عن الهايكو/التغريد في اللغة العربية. دافعت وما زلت أدافع عن هذا الشكل، دون الدخول في شبكة المصطلحات الخاصة بالهايكو الياباني، لقناعتي أن هذه المصطلحات خاصة باللغة والذهن والتفكير الياباني، وقد يؤدي نقلها إلى تعقيد هذا الشكل البسيط، عدا عن أنها لن تُفهم لارتباطها بتربة أقرب إلى الوثنية منها إلى أي شيء آخر في نظر الثقافات التوحيدية.لا.. لا، لستُ محترف هايكو، بل عاشق هايكو قراءة وترجمة، وما أكتبه،أنا، بهذا الشكل لا أسميه هايكو ولا أجد حاجة لتسميته أكثر من لقطات، تغريدات، أخبار شعرية، وردات ع الماشي، عطسات في الطريق؛ الشعر بسيط كالماء والهواء، ولا يحتاج إلى فحول وعضلات، يحتاج إلى قليل من الطفولة وكثير من التواضع. فلمَ البحث عن التعقيد والتركيب وتحويل النص الشعري إلى شبكة من المفاهيم الفلسفية والأسطورية.

وهل فعلا يوجد هايكو سوري وهايكو مصري وهايكو تايلندي..الخ ماذا تحدثنا حول ذلك؟

إذا استطاع الهايكو/التغريد السوري أن يعبّر عن البيئة السورية ويظهرها بشكل ملموس، بحيث أننا إذا قرأنا نفهم أننا في جو سوري، فلم لا نتكلم على هايكو/تغريد سوري, والأمر نفسه ينسحب على البلدان الأخرى. لكن يبدو لي أن الأمر ليس بهذه السهولة. يمكن الكلام على الهايكو/التغريد في سورية أو في المغرب أو التايلاند كما يقول السؤال، وليس أكثر.

محليا وعربيا أنت من بدأ الترويج لهذا النوع من الشعر، عبر ديوان الشعر العربي الجديد، حين أصدرت الجزء الأول الخاص بالعراق، ومرة حين دافعت عن فكرة أن كل إنسان شاعر هاو بالفطرة ويتحول إلى محترف بالخبرة والمران، قبل ذلك لم يكن هناك شيء يذكر من هذا كله خصوصا فيما يخص الهايكو، هل تشعر بالرضا عن تجربتك الأدبية؟ وهل ترى اليوم أن النتاج للنوع الشعري الذي روجت له، أينع قصائد محلية لها قيمتها الجمالية والفكرية ضمن النوع الذي روجت له؟

نعم هذا الكلام صحيح، مع أنه سيثير، وقد أثار، أصدقاء وأصدقاء. بصراحة، عندما لمعت فكرة المشروع في ذهني، لم أكن أبحث عن ريادة ولا عن أستذة، وطبيعتي لا تنسجم مع قصة الأستذة والتلمذة. فأنا تلميذٌ في هذا العالم من المهد إلى اللحد. كل ما في الأمر أنني اكتشفت وأنا في اليابان، ولدى أول احتكاكي بالشعر الياباني وشعرائه، إلى أي حد شعرنا العربي الحديث بعيد عن الواقع وصعب الفهم. ولم أتردد في وضع الأصبع على الجرح كما يقال: التجريد والذهنية، أو الميتافيزيقيا المصطنعة، ثم المطولات، أو العكس. فالمطولات تقود إلى الثرثرة والإسهاب واستحضار ما هب ودب لزجه في أتون النص الشعري، بحثا عن الفحولة التلقيدية وتوابعها. كنت، وما زلت، أشعر بالاختناق من قراءة هكذا نصوص. لكن كنت، أثناء القراءة، أقع على لقطات وكأنها من خارج النص، فقلت لنفسي وجدتها: سأعيد قراءة ما أمكن من الشعر العربي الحديث بهذه الطريقة، وأستخرج من النصوص هذه اللقطات الحسية الفرحة، القريبة من روح الهايكو، وأصنع منها ديوانا للشعر العربي جديد، وهذا ما حدث، ويبدو أن المشروع استهوى وما زال يستهوي كثير من الأصدقاء، وفتح، ومازال يفتح، أفاقا لعشرات التائهين، المتورطين، في دهاليز الحداثة والشعر الحديث، ويبدو أنني لا أشعر بالخيبة أو الإحباط لأفول العصر الميتافيزيقي وبزوغ العصر الحجري في غالبية النصوص/التغاريد التي تتاح لي قراءتها.

هل تعتقد أن هذه الموجة الكبيرة من (شعراء) الهايكو، ظاهرة مؤقتة ستتلاشى مع الأيام، أم أنها ستصبح أكثر وجودا ورسوخا في الوجدان العام؟

لا، لا ليست كبيرة وأقل مما كنت أتوقع بكثير. لكن يبدو أن ضغط الحياة اليومية وحاجة الناس إلى التنفس السريع سيعجلان باتساعها وانتشارها أكثر يوما بعد يوم، وما سوف يساعد على هذا الانتشار هو نظام الشبكة العنكبوتية القائم على الاختصار في التراسل والتخاطب، فأن تقرأ مقطعا شعريا هكذا فورا على الشاشة أسهل بكثير من فتح رابط لقراءة الشعر. العالم يميل إلى الاختزال في كل شيء وليس في الشعر فقط، حتى الرسائل بين الأصدقاء على الهواتف المحمولة تأخذ شكل قصائد قصيرة، لذلك أتوقع انتشارا أكثر لهذه الظاهرة لأنها تلائم الطبيعة البشرية وتنسجم معها.

قلت في أحد المقالات: إن الهايكو باللغة العربية تنويع بسيط وخفيف الظل على الأشكال الشعرية الموجودة، العمودي، التفعيلة، قصيدة النثر، إن كان لدينا هذه الأنواع فلماذا برأيك نحن بحاجة إلى نوع جديد؟ وهل لا زال كما وصفته؟

أعتقد أن الشعر العمودي قد وصل منذ وقت طويل إلى طريق مسدود، ولا نكاد نسمع اليوم بشاعر عمودي إلا بالمصادفة. وأشعر بالأسف لهذا الفقدان. لأن هذا الشكل مغروس في وعينا الجمالي جميعا، ولا نكاد نتذوق أشكال الشعر الأخرى إلا مقارنة به، هذه مفارقة مزعجة وتناقض يصعب حله. لعل صعوبة التجديد فيه هي وراء ابتعاد الناس عن كتابته. فليس سهلا أن تجدد في إطار شكل عمره أكثر من خمسة عشر قرنا، لم يترك تدويرا لغويا إلا وأتى عليه في إطار البحور المعروفة. وشعر التفعيلة لم يحل المشكلة، بالعكس زاد الطين بلة، وكشف عن مأزق الوزن بشكل أوضح، فوصل بسرعة هو الآخر إلى طريق مسدود. فعوض الستة عشر بحرا التي كنا نسبح فيها على مدى تلك القرون، صرنا بتفعيلة واحدة نمشي على إيقاعها من سطر إلى آخر. على الصعيد الإيقاعي والموسيقي، يظلّ الشعر العمودي أغنى بكثير من شعر التفعيلة، لذلك وصل هذا الأخير بسرعة إلى المأزق نفسه، هل من الضروري تلازم الشعر والموسيقى مهما كان الثمن؟ هل يمكن لتفعيلة واحدة أن تحل محل ستة عشر بحرا وتوابعها من علل وزحافات وما شابه؟ لذلك جاءت قصيدة النثر كحل طبيعي، أو كمحاولة حل، أو كهامش يتنفس من خلاله من يريد. إلى متى يستمر هذا الهامش/الحل، وما هو مستقبل قصيدة النثر، لا أحد يعلم، لأن الذائقة السائدة، بما فيها المناهج الرسمية، لا تعترف بها شعرا حتى الآن. هذا المشهد العام المأزوم للشعر العربي، وللثقافة العربية أيضا، يحتاج كما أعتقد إلى شيء من التنويع البسيط، الخفيف الظل، والهايكو/التغريد ليس أكثر من ذلك.

بعيدا عن الهايكو، كيف تنظر للمشهد الثقافي عموما في البلاد؟

بعد سبع أو ثماني سنوات حرب لامثيل لها في التاريخ على بلدنا سورية، فإن مجرد صدور الجرائد يعني أن المشهد لا بأس أو بخير ويدعو إلى التفاؤل.

برأيك أين يتموضع الخلل الثقافي لدينا، خصوصا وأن الأغلبية يؤكدون حالة تدهور ثقافي عام لا سابق لها تجري على قدم وساق؟

ببساطة في فساد المثقفين أنفسهم، وفي هذه الأغلبية التي تؤكد حالة التدهور الثقافي، الفساد الثقافي جزء من الفساد العام، أو لعله أسّ الفساد إذا ما نظرنا إلى كلمة ثقافة على أنها تشمل بناء الفرد منذ الصغر. الثقافة لا تشمل فقط الشعر والرواية والفنون، بل تشمل الدين بكافة مجالاته. وفي المجتمعات الناطقة بالضاد، ومنها المجتمع السوري، الثقافة الدينية السائدة تأكل الأخضر واليابس وتقف وراء كل فساد، وجميعنا أبناء هذه الثقافة وجميعنا فاسدون.

يرى العديد من النقاد، أن تعويم أي نوع شعري على حساب شعر العمود، هو لضرب هذا الفن، الذي كان من مقومات قوتنا كعرب نعيش في بيت شعر كما يقال ولو بشكل مجازي، ما رأيك بهذا الرأي؟

هذا الكلام مبالغة وغير واقعي ويروج له الإسلاميون قبل غيرهم، لأنه يخدم أيديولوجيتهم في التعصب والانغلاق فكريا وجمالياً.

حوار: تمّام علي بركات