ثقافة

سيرة الغائب- سيرة الآتي.. بحثاً عن إنسان منشود

مازالت العودة إلى أدبيات السيرة الذاتية، وتجلياتها في الأدب والفكر والثقافة مجالاً خصباً، ليس لتأصيل مفهوم السيرة الذاتية وتجلياتها فحسب، بل للعودة لقراءتها وبأكثر من منظور، وهي التي مازالت أيضاً حاملة لكبرى الأسئلة وفقاً لماهيتها الإشكالية، ولخصوصياتها الفنية والأسلوبية والجمالية العابرة لأجناس الكتابة، منذ الكتاب الباهر لجان جاك روسو «الاعترافات»، وما شكله آنذاك من انعطافات لافتة في المخيلة الإبداعية، وغيره مما وجدنا عليه فن السيرة الذاتية في الأدب العربي قديمه وحديثه والذي أخذ أبعاداً شيقة بالمعنى المعرفي في أدبنا وثقافتنا المعاصرة.  وأن يعود الباحث والروائي شكري المبخوت إلى استبطان كتاب “الأيام” لعميد الأدب العربي الراحل طه حسين، فإن ذلك لا يعني فقط قراءة ما انطوى عليه كتاب الأيام من رسائل وأفكار تخص ثقافة ما بعينها، وقراءة ما بين سطوره؟.

على الأرجح وبتعبير شكري المبخوت أن طه حسين لم يتساءل على عادة كتّاب السيرة الذاتية «من أكون»، بل خاطب القارئ آمراً مثلي يجب أن تكون، وعليه جاءت فصول الأيام تحديداً لهذا المثل/ المثال، على ما تواضع عليه النقاد بالقول أن كتاب الأيام هو نص من أشهر نصوص الأدب العربي الحديث، وقد وضعه طه حسين في وقت «من تاريخ مصر الثقافي، بعلامته الزمنية وبلحظته التأسيسية لجنس السيرة الذاتية». فهل ينضاف هذا الكتاب إلى الدراسات التي ذهبت إلى أيام طه حسين، علماً أن جلَّ تلك الدراسات سعت إلى الوفاء بميثاق السيرة الذاتية وجنسها الإشكالي، أي أنها قرأت مدونات السيرة الذاتية بوصفها تجليات إنسانية ومصارحات جريئة، حيث الجانبان الذاتي والموضوعي على حد سواء، فكل منهما يكمل الآخر ويستأنفه بل يشترطه.

وهكذا وجدنا أن جوهر تلك الدراسات قد حايث ما ذهب إليه «جورج ماي وفيليب لوجون» وغيرهم، ومع سيرة الغائب سيرة الآتي، سنقف على أكثر مما هو ترجمة ذاتية لذلك المصطلح، والذي سيأخذ كماله في الأيام لـ طه حسين، وفقاً لما ذهب إليه الكاتب بالقول: إن كتاب الأيام يشف عن بعض قواعد الكتابة السير ذاتية مثل المنظور الاستعادي الذي تُروى به، وازدواج البطل فهو صبي تارة وكهل تارة أخرى، وبالنسبة إلى القارئ العادي «للأيام» صلات بنصوص سير ذاتية كتبها المجايلون لطه حسين مثل إبراهيم عبد القادر المازني، وأحمد أمين سواء قبله أو بعده.

لكن ما يقف عنده الكاتب هو ما ذهب إليه النقاد بوصفهم قراء متخصصين لجعل الكتاب بمثابة وثيقة، وبحيرتهم من هل هو «رواية أم سيرة ذاتية».

ثمة تعليل لمواقف النقاد واختلافها من جنس الأيام، لكن أبرز تلك المواقف هي صعوبة الجزم بانتماء «الأيام» إلى جنس السيرة الذاتية، لأن الجزم بأنه رواية يعسر قبوله، والتسليم بأن الكتاب يتحدث عن حياة طه حسين قائم، وبرؤية الكاتب بقي على الدارسين أن يبينوا كيف يُتلقى النص بالتاريخ فنياً من الناحية الأدبية لا الواقعية المرجعية، فضلاً عن مسألة التطابق بين المؤلف والراوي والشخصية الرئيسة، وهذا ما جعل من كتاب الأيام كتاباً إشكالياً امتياز، وهو ما يبني شكري المبخوت عليه تعميقاً وتأملاً ليستخلص أن إشكالية الجنس الأدبي في الأيام هي تعبير عن إشكالية اللحظة التي كُتبت فيها تاريخياً ونفسياً، بيد أن الإشارات الصريحة التي يبديها المؤلف –المبخوت- وقوفاً عند مفارقات تلقي كتاب الأيام بوصفه سيرة ذاتية، ستنطلق من منهج تتعدد فيه القراءة لتكتمل بكسر أفق التوقع لدى القارئ.

وما يمكن أن يشكل كتابه بهذا المعنى قيمة مضافة إلى القراءات المعاصرة التي التقطت مفارقات التلقي بكتب السيرة الذاتية عموماً، سواء لما تجلى فيها من خطاب الذات، أم العالم، أم كليهما معاً، وتجلي الواقع الاجتماعي والثقافي فيهما.

يأخذنا كتاب شكري المبخوت إذن إلى غير حافز للقراءة وبالمعنى المعرفي لا المستقر عند حدود تأصيل فن السيرة الذاتية، وفي هذه القراءة التي ينفتح أفقها الثقافي ليقرأ كتاب الأيام بطريقة مغايرة، تجعل من كتاب الأيام حسب الكاتب جنساً يخترق ميثاق السيرة الذاتية، ويقرب إلى الأذهان أن شروحات طه حسين على كتابه، كانت أيضاً إشكالية، وبمعنى آخر أن أقنعة الكاتب وتوسله لعبة الضمائر كانت في حيز توسل تقريب طه حسين أفكاره لمتلقيه على اختلاف مستوياتهم. وذلك عبر ما جهر به الكاتب –المبخوت- من أن «الأيام نص مخادع مخاتل، ومن النصوص التي لا تفصح عن وجوه الفن فيها، ولا عن مقاصدها إلا بعد معاشرة لها».

فهل كان طه حسين وهو يضع كتابه بعشرين فصلاً وبتقنيات مختلفة، يريد أن يستقرئ ثقافة لا ذاتاً فحسب؟، وبالمعنى الذي انتهى إليه الكاتب من انفتاح النص على فكر الحداثة، وبأنه راوح بين الأدبية والفكر؟، يأخذنا الحيز التطبيقي في قراءة كتاب الأيام «نظام الوحدات السردية والمعادلات الجمالية» إلى غير إجابة ستبدو غير منتهية تماماً في ضوء اشتغالات الحداثة ذاتها وموقفها النقدي من الذات والآخر والعالم.

سيرة الغائب.. سيرة الآتي

السيرة الذاتية في كتاب الأيام

لـ طه حسين

دار رؤية للنشر والتوزيع

القاهرة 2017

أحمد علي هلال