أزهــــار الزنبـــــــق
كان الشتاء قد ولى، فقد قضت الحقول والكروم على النوم. واستيقظت لتحيي الشمس بعنبها الرقيق وخضرتها الجذابة، حينها قالت لي: انظري إلى الأرض في ثوبها السندسي، وتأملي كيف طرزت السواقي أهدابه بالفضة اللامعة، انظري إلى الأرض التي تفوح بعطرها، فقد تزينت بأبهى حلاها وكأنها ابنة حاكم عظيم في يوم زفافها، وكانت السماء عروساً لها كما كنت أنا عروسة هائمة في حب هذه الجبال الخضراء، وهذه الأرض الطيبة، وبينما هي تقول هذا، كانت سحابة من الدموع تغشى عينيها. فما تكاد تلك السحابة تكبر حتى تغوص عيناها في بحر من الدموع المترقرقة تمشت إلى غابة الغار والهدوء يجلل طلعتها البهية، وقالت: افتحي نوافذ أفكارك واضبطي أوتار قلبك، فإن لدي ما أقوله لك، كانت تخلبني وأنا أصغي إليها وقلبي في الأعماق كالعصافير. حدثتني عن حياتها وعن القسوة والظلم الذي تلقته، ومع هذا لم تكن تظهر علامات حزنها أبداً، كانت كالأوراق التي لا تنشد أناشيدها إلا إذا حركتها الرياح، تقول لي دائماً، هناك منحدرات سحيقة تختبئ الزنابق الخضراء فيها، كالفتاة الجميلة التي عميت أعين الخطاب عنها، انطبعت كلماتها على صفحات قلبي، كأنما حفرت بالأزاميل، تقول لي: في كل سنة أنتظر الزنابق، ولكن نفسي تكتئب في أعماقي، لأنني طالما تقت لأفرح مع الربيع فلم أقدر. هنا سكنها الصمت ولم تعد تتحدث أبداً، وبدت كأنها تحادث نفسها، فقلت لها بلهجة السؤال: هل أصابك شيء، حتى نالك الصمت، وأصبحت كأنك تحدثين نفسك. أجابت بصوت مرتجف: ليس في الوجود شيء أعمق من نفس الإنسان، والنفس هي الأعمق الذي ينشد ذاته، لأنه ليس ثمة صوت آخر ليتكلم، ولا آذان أخرى لتسمع شيئاً، حل الليل وعادت إلى الشرود وأخذت تنقّل نظرها في البساتين المتكئة تحت النجوم الساهرة. قلت لها ما بالك يا خالة، تبقين ساهرة شاردة اللب وكأنك حزينة؟ قالت: القلب يعرف ما لا ينطق به اللسان وما لا تسمعه الأذن. تعجبت مما قالته لي فجأة تسمع صراخ أطفال، وضحك يشق عنان الفضاء، فتبتسم لأول مرة وتقول: كم هو جميل تذكر أيام الطفولة مهما كانت قاسية أو سعيدة، فمن يتذكرها يحس بشيء يفيض في قلبه كسعادة أو فرح عارم) ذهبت مرة إلى الحقول وقد كانت مرتدية ثوب حزنها بعد أن خلعت ذاك الثوب الأخضر، لم تكن الطبيعة قد داوت جراحها وواست ألمها بعد، رأيت في أحد الحقول بلوطة هادئة لا قيمة لها ولا شأن كما أزهار الزنبق. عدت في الربيع إليها فوجدتها تمد جذورها في الأرض لتصير سنديانة جبارة أمام وجه الشمس، وأنا غرست جذوري منذ ولادتي في هذه الأرض الخيّرة حتى أنها أصبحت بما فيها من جبال خضراء وسهول جزءاً من قلبي، أشعر بنبضه في كل ثانية ودقيقة، سأتمسك بالحياة أكثر وسأصبح مؤمنة بقدري وأحمد الله وأشكره، وبقيت على تلك الحالة إلى أن كتبت لها الأقدار أن تغير حياتها جذرياً وتدخل السعادة قلبها كما أزهار الزنبق التي أصبح الناس يخرجون إلى المنحدرات في الربيع قاصدين رؤيتها لكي يتمتعوا بجمالها الأخاذ.
تغريد الشيني