ثقافة

“سبيلبرغ” وثائقيّ لم يظهر عظمة المخرج

كم سحرتنا مشاهدة الأفلام السينمائية، وكم أصابنا الفضول للغوص في هذا العالم المليء بالكاميرات والإضاءة!؟

في الحقيقة، تنقلنا مشاهدة فيلم لعالم موازٍ يلبسنا فيه كاتبه ثوباً يلائمنا كلّ حسب انغماسه فيه، ويزينه ممثلوه ويضع كافة تفاصيله لاعب واحد نسميه المخرج. ذاك اللاعب الذي إن أتقن لعبته أمطرنا ترقباً وتوقاً لأعماله القادمة. وهذا ما ينطبق على حكاية المخرج والكاتب والمنتج السينمائي الأمريكي ستيفن سبيلبرغ.

أنصف الفيلم الوثائقي الجديد، الذي قدّمته شبكة (HBO) الأمريكية الشهيرة والذي حمل عنوان “سبيلبرغ”، النجاحات العديدة للمخرج الأسطوري ستيفن سبيلبرغ، ولكن عدم تطرق الوثائقي لبعض أكثر أفلامه إثارة للاهتمام جعله كالحلوى عديمة السكر.

بدأت أسطورة سبيلبرغ باعتراف الجميع، مع بداية العصر الهوليودي الجديد، الفترة التي ظهرت فيها موجة من المخرجين الشباب الأمريكيين المميزين أواخر الستينيات وأوائل السبعينات، وأصبح نظام الأستوديو القديم أكثر انطلاقاً وأعطي المخرج حرية مطلقة، وبرز عشقه للتصوير في سنّ المراهقة وقدم عدداً لا يحصى من أفلام الهواة مستخدماً كاميرات “سوبر 8” وكان عمره وقتها 13 سنة فقط وأول فيلم له (The Last Gun)) عام 1959، وشقّ طريقه إلى العالم الهوليودي من خلال المثابرة والتصميم الهائلين، إضافة إلى التسكع حول استوديوهات “يونيفرسال” وحتى التخييم في مكتب فارغ، قبل أن يتمكن أخيراً من نيل فرصته الأولى في صناعة برامج تلفزيونية، وكان أولها (Savage) و(Something Evil). ليصبح أصغر مخرج على الإطلاق يتم التوقيع معه لعقد طويل الأمد مع أحد استوديوهات هوليوود الكبرى وذلك عام 1969.

هذا هو السرد الذي شكل بداية ووسط فيلم “سوزان لاسي” الوثائقي عن حياة المخرج العالمي سبيلبرغ. ويحتوي فيلم لاسي على مساحة واسعة من لقطات لمقابلات معه، وتتركز أول 20 دقيقة من هذا الوثائقي الذي يمتد لساعتين و 28 دقيقة، حول الموضوعات التي ربما تكون مألوفة لأكثر المعجبين. ويمثل سبيلبرغ عمود الارتكاز لصناعة السينما في السنوات الأربعين الأخيرة، ومن الصعب التحدث عنه بمنأى عن نجاحاته. فقد أصبح من أنجح مخرجي السينما في التاريخ وهو في سن السادسة والثلاثين. أخرج وقتها أربعة من بين أعظم عشرة أفلام حققت أعلى إيرادات منها، (E.T.) عام 1982، وهو الفيلم الذي حقق أحد أعلى الإيرادات في التاريخ. وفيلم (Jaws) عام 1975 والذي بدوره حقق رواجاً كبيراً. وفيلم (Indiana Jones) عام 1981الذي يعتبر من أعلى الأفلام دخلاً على الإطلاق. وفيلم الخيال (Close Encounters of the Third Kind) عام 1977. ويؤكد سبيلبرغ على ذلك بقوله “إنّ نجاح فيلم (Jaws) غيّر حياتي، وأعطاني فرصة لاختيار وانتقاء الأفلام بعد ذلك … لذا كان (Jaws) بطاقة مرور مجانية إلى مستقبلي”.

وبعد حديثها عن فيلم (Jaws) أعادتنا لاسي إلى أفلام سبيلبرغ الأولى كـ (Brats- E.T- Close Encounters)، وتحدثت عن تميزه داخل استوديوهات يونيفرسال بين معاصريه في تلك الفترة من المخرجين أمثال، مارتن سكورسيزي، وجورج لوكاس، وبريان دي بالما، وعن ركود أفلام الكوميديا والدراما، التي أعاد إحياءها في الثمانينيات مع فيلم (The Color Purple and Empire of the Sun) لتصل إلى فيلم (Schindler’s List) الذي نال عنه أولى جوائزه للأوسكار كأفضل مخرج عام 1993. وختمت هذه الفقرة بالحديث عن فيلم (Jurassic Park) الأشهر تقريباً في مسيرته، والذي من خلاله أعاد سبيلبرغ خلق هذا النوع الرائع من الأفلام مرة أخرى.

بعد الحديث عن كل هذه الأفلام، لم يتبق من وقت الفيلم الوثائقي سوى نصف ساعة للتطرق لبقية مهنة سبيلبرغ، بعد أن شارك في تأسيس أستوديو “دريموركس” وقدّم ما يزيد على 15 فيلم. لذا فضلت لاسي الحديث عن أفلامه التي نالت جوائز الأوسكار في الوقت المتبقي من الفيلم، كـ (Saving Private Ryan- Munich- Lincoln). ويعدّ الوثائقي ضحيّة لشعبية موضوعه وكثافته في بعض النواحي، وسيكون من الصعب على لاسي إحاطة كافة جوانب مسيرة سبيلبرغ، فمن جهة هناك الكم الهائل من أفلامه الناجحة على شباك التذاكر أو على أوراق النقاد، ومن جهة أخرى حياته الشخصية وطريقة تفكيره ورؤيته لمستقبله ومستقبل هوليوود، لكنه  تحول منذ فترة طويلة لمخرج يستخدم منصته الضخمة للتحقيق في مواضيع أكثر تعقيداً دون التضحية بالاستمتاع بأكل البوشار أثناء عرض فيلمه. وبات مشدوداً أكثر من أي وقت مضى إلى الموضوعات التاريخية، التي يختارها بحسب ملاءمتها لظروفنا الراهنة. وأصبح الآن راغباً في أن يدع حقائق التاريخ تعبر عن نفسها بالكلمات وباللقطات السينمائية سواء بسواء، ليتحول إلى نمط جديد من أنماط المخرجين الكلاسيكيين.

ابتكر مع دريموركس أستوديو لنفسه واستخدامه لإطلاق سراح أفلام ذات مواضيع أكثر غموضاً وبكثير من سابقاتها. فمثل فيلمه العائلي الرائع (A.I.) الذي يتمحور حول فكرة عبء الوعي كتبه في الأصل ستانلي كوبريك وجاء الفيلم إهداء له. وترك انطباعاً محيراً عند النقاد. كان مكتظاً بالصور الغريبة أكثر مما عودنا عليه سبيلبرغ، لكن تم بناؤه حول استكشاف ديناميكية العلاقة بين الأم والطفل.

والمخيب للآمال أن “سبيلبرغ” الوثائقي، أوحى إلينا وكأن شخصية هذا المبدع الذي لا يكفّ عن تقديم الأعمال الجريئة والصعبة، قصة كتب عنها العديد من كتاب السيناريو مع المزيد من التفاصيل المسلط عليها الضوء، لا أمام حياة مبدع أوقف زحف موسيقى “البوب” في السبعينيات، إلى قلوب الآلاف حول العالم ليزرع فيها بزور إدمان أعماله. ومن المعيب ألا تتبنى لاسي شكلاً أكثر استجوابية في فيلمها ليحافظ على رونق أفلام سبيلبرغ اللّاحقة. فقد قدّم نواه بومبش وجيك بالترو عام 2015، فيلماً وثائقيّاً عن عملاق آخر من هوليوود الجديدة “دي بالما”، وصنفاه على أنه واحد من أكثر المؤلفين تميزاً في عصر ألفريد هيتشكوك. وقام بومباك وبالترو بجعل دي بالما يتحدث عن ذكرياته مع كلّ مخرج عمل معه وعن انطباعه آنذاك وأفكاره عنهم الآن. وبهذه الطريقة نجحا بطمس إخفاقاته الفنية والتجارية.

كان من المثير للاهتمام أن نرى سبيلبرغ يفعل الشيء نفسه، بتكريس وقت أكثر للحديث عن (A.I) و(E.T) على سبيل المثال. بدلاً من ذلك، يبدو فيلم لاسي وكأنه الدفعة الأولى في سلسلة تنتظر أن تكتمل. فيُلَخص تأثير سبيلبرغ المثير للإعجاب على هوليوود، دون أن يهتمّ في النصف الثاني من حياته المهنية، أو رؤيته المستقبلية. على الرغم من أن فيلم “سبيلبرغ” يمكن أن يكون له تتمة، إلا أن فائدته إلى الآن رجعية لمخرج لا يمكن إنكار تأثيره على السينما العالمية، وهو كما وصفه أحد عشاقه على مواقع التواصل الاجتماعي عندما بلغ السبعين من العمر، سبعون عاماً من “السبيلبرغية”، بائع الأوهام والمؤرخ للإنسانية وراعي أحلام الكبار والصغار.

سامر الخيّر