بلبل أطربت جمهور الأوبرا في أمسية من الزمن الجميل
“قادم من الريح وحدي فاحتضني كالطفل يا قاسيون” كلمات نزار قباني كانت حاضرة في دار الأوبرا في أمسية غناء شرقي وصفتها سمر بلبل بـ”المجازفة”، إلا أنها نثرت الفرح والسحر على وجوه الحاضرين، بترنيمات صوتها الذي وظّفت فيه تقنيات الغناء الكلاسيكي والفوكاليز لتنساب آهاتها وتتعانق مع جمالية ألحان عصام شريفي المستوحاة من المدرسة الكلاسيكية العربية والمتماوجة بين الانتقالات الموسيقية المرتفعة والمنخفضة، وبفواصل موسيقية وسكتات وتمازج اللحن الأساسي مع اللحن المرافق، فأعادت جمهور الأوبرا إلى زمن الموسيقا الجميل، بمشاركة الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو نزيه أسعد.
ولم تتميز الأمسية بجمالية الألحان لعصام شريفي فقط، وإنما بتجربته في التأليف الموسيقي للموسيقا الآلية بمقطوعة”أنغامي”. والأمر اللافت أن سمر وعصام قدما مقتطفات من قصائد وأغنيات غير معروفة من التراث القديم، ونوّعت بين الغناء بالفصحى واللهجة المحكية، واتسمت في مواضع بالقفلة الغنائية المتدرجة بصوت بلبل التي كان لها وقع خاص على جمهور الأوبرا، وجاءت مختلفة عن القفلات الموسيقية مما شكّل إبداعاً خاصاً بها.
تكونت الفرقة من الكمنجات والتشيللو والكونترباص والإيقاع والعود والقانون والناي والأكورديون، فبدأت سمر الأمسية بتحية إلى سورية- التي اشتاقت إليها وترجمت حنينها إليها بأمسياتها مع د. عصام شريفي في فرنسا والبلاد الأوروبية لتتواصل مع الجمهور الأوروبي ومختلف الجاليات العربية، لتنتقل إلى قصيدة “سلي فؤادك” لمانع سعيد العتيبة، وبدت جمالية اللحن لشريفي في المقدمة الموسيقية وبالفواصل والمقاطع الصغيرة داخل اللحن الأساسي لاسيما للكمنجات –ستيكاتو-مع الحضور الكبير للعود، وفي مواضع للناي كصولو داخل اللحن، لتعود بلبل إلى القفلة بمقدمة القصيدة.
المنعطف الجميل والشائق في الأمسية كان في اختيارهما الغناء الكلاسيكي المصري في “أنا قلبي دليلي” كلمات أبو السعود الإيباري وألحان محمد القصبجي المبنية على نغمات الفالس والامتدادات اللحنية الراقصة، وتناغمت فيها نغمات الأكورديون للعازف وسام الشاعر مع اعتماد بلبل على تقنية الفوكاليز وترنيمات الصوت، فبدا تفاعل الجمهور الواضح مع هذه الأغنية المألوفة لديه، لتتغير أجواء الأمسية بتقديمهما مقطعاً من قصيدة “ياورد” كلمات أحمد رامي وألحان عصام شريفي، والأمر اللافت أن هذه الأغنية غنتها أم كلثوم لمرة واحدة من ألحان زكريا أحمد على الهواء مباشرة، ولا يوجد لها أيّ تسجيل فحصل شريفي على كلماتها من ديوان الشاعر أحمد رامي ولحنها موظفاً القانون في المقدمة واللحن الأساسي.
أما مفاجأة الأمسية فكانت بوقفة مع تجربة التأليف الموسيقي لشريفي للموسيقا الآلية بمقطوعة “أنغامي” التي باحت بالحنين من خلال التدرج اللحني للناي والقانون لتعبّر عن الأمل والفرح بحوارية بين الإيقاعيات والوتريات، استخدم فيها شريفي تقنية التكثيف الموسيقي في مواضع والسكتات الإيقاعية “دوم”، ومن ثم أهدت بلبل جمهور الأوبرا موال “ثرثرة بحر” باللهجة المحكية كلمات ريم بيطار التي تسرد من خلالها قصة حبّ خفية، فغنت بلبل على نغمات العود الرائعة “بتتذكر لما وشوشتني كلمة، بتتذكر وأخذتها الموجات وعطتها للنجمة”، لتنتقل إلى كلمات بيرم التونسي التي كانت حاضرة من خلال أغنية “كل الأحبة اتنين” مع ألحان زكريا أحمد وآهات بلبل، وهي أغنية لأم كلثوم لايوجد لها تسجيل إلا بصوت أحد الهواة المصريين وعزفه على العود، فأعد شريفي ألحانها واعتمد فيها على آلات التخت الشرقي، لتختتم بلبل الأمسية بتحية سورية أيضاً بمقطع من أغنية “الوطن” للشاعر الراحل عمر الفرا والتي اختزلت معاناة الشعب السوري خلال سنوات الحرب وعبّرت عن وطن العزّ والكرامة وصحوة الوجدان، وصبر وعزيمة وإيمان الشعب، وتميزت بقفلة العود المتصاعدة وفق تقنية الرش.
وبعد الأمسية تحدث المايسترو نزيه أسعد قائد الفرقة حول جمالية ألحان شريفي، فأوضح بأنها أمسية رائعة تميّزت بألحانها الشرقية بامتياز المعتمدة على المقامات الأساسية في الموسيقا العربية الرصد، البيات، الحجاز، النهاوند، العجم، وهذا التنوع بالمقامات يشكّل الهارموني في الموسيقا العربية، كما اتسمت بالشرود الموسيقي وهو التبديل الإيقاعي واللحني للمقاطع، وعن السكتة الموسيقية قال بأنها للانتقال من ذروة المقام إلى مقام آخر لنمضي إلى أبعاد لحن آخر، وهذا يعود إلى ما وصفه أسعد بخاصية الموسيقا التصويرية في ألحان شريفي. وعن دور الآلات الإيقاعية أضاف بأنها تشكّلت من آلة الشمس التي تعطي الرقرقة والبنكوز ذات الصوت الرفيع، في حين اعتمدنا على الكاتم لإظهار الصوت الضخم والرق الذي تساعد الصنجات فيه على حضور الصوت المتوسط، مشيراً إلى خصوصية كل أغنية وإلى التنوع اللحني بالاعتماد على آلات معينة من الفرقة، أما عن القفلة الغنائية فتعود إلى رؤية الملحن، مع تنوع القفلات القوية والهادئة المتدرجة وفق مواضع الشجن، وحول تجربة شريفي للموسيقا الآلية بيّن أسعد بأنه لم يتجه نحو الاستعراض اللحني الموجود بالموسيقا الكلاسيكية واعتمد على التماوج الموسيقي في الموسيقا العربية.
ملده شويكاني