ثقافة

من قال أنّ الفلاسفة والعلماء معصومون

يقول عالم النفس “إريك فروم”: لقد اعتقد “فرويد” حتى عام 1917م أنّ الألمان سينتصرون. استنتاجاً من رسالته التي كتبها وهو في ألمانيا: إنّني سعيدٌ للغاية أن أكون في “هامبورغ” وأن يكون في مقدوري أن أقول: “جنودنا، انتصاراتنا”. الأكثريّة من المفكّرين الألمان أو الفرنسيّين قد وافقتْ على الحرب، وبذلك لا يبدو موقف “فرويد” شاذاً بهذا المعنى. علماً أنّه عاد متأخّراً، ودعا برسالة متبادلة مع “أينشتاين” 1925م  إلى السّلام.
ولعلّ “أينشتاين” يشكّل أحد الاستثناءات القليلة الرّافضة للحرب. فهو لم ينجرف نحو مواقف متطرّفة يمينية أو يساريّة،  بل اعتبر العلماء أخوة في الإنسانيّة، ينتمون بشكلٍ عميق لما يشبه الـ “ديانة الكونيّة” يكون فيها العالِمْ  أقرب إلى المتصوّف، يقول: “إنني أضع نفسي في مصاف الرّجال المتديّنين تديّناً عميقاً، كما في التّجربة الصوفيّة” مردفاً: “إن أجمل انفعال تهتزّ له أنفسنا هو الانفعال الصّوفي”  فالتّجربة الصّوفية، تبلغ ذروتها لدى علماء الطّبيعة والفيزياء والرّياضيّات. وهاهي مقولته الشّهيرة، تؤكّد مدى اتّزانه وانسجامه مع مواقفه ونظريّته العلميّة التي خلخلت أسسَ الفكر الغيبي من جذوره: “إنّ الله لا يلعب النّرد”. وقد رفض، بأخلاقيّة عالية وهو اليهودي ـ امتداح سلوك إسرائيل ـ رافضاً منصِبَاً فخريّاً بأن يكون رئيساً لها في مرحلة من المراحل.
أمّا الفيلسوف “إميل سيوران” الذي يعتبر نفسه من “الفلاسفة بالصّدفة” الذي كان ينكر حاجته للقرّاء أو للجمهور ، شأنه بذلك شأن أستاذه “نيتشه”  قائلاً: إنّ الكتب الوحيدة التي تستحقّ أن تكتب هي تلك التي يؤلّفها أصحابها دون أن يفكّروا في القرّاء، وهو الذي ترك خمسة عشر كتاباً إلى جانب المخطوطات التي وجدت بعد وفاته. فقد تأثّرت قناعاته الحياتيّة بجرحٍ عاطفيٍّ شخصي كبير، حين فاجأته أمّه ذات نقاش حادٍّ جرى بينهما، بالقول: “لو كنت أعلم ما سيؤول إليه حالك لأجهضتكَ منذ شهور الحمل الأولى” هكذا إذن، فوجوده كان بمحض نزوة أو صدفة لا أكثر!. حفرتْ العبارة في نفسه عميقاً لدرجة أنّه قال يوماً: “في وسعي أن أرتكبَ الجرائم كلّها باستثناء أن أكون أباً”. لم يعتبر “سيوران” عبارته مقولة في اليأس، بل فلسفها باعتبارها طريقة خاصّة في وضوح الرؤية، يقول: “رؤيتي للمستقبل، هي من الدّقّة، بحيث لو كان لي أطفال لخنقتهم على الفور” لقد شكّلَ مثالاً نقيضاً لـ “سارتر” سيّد المشهد الثقافي الفرنسي آنذاك، الذي انتصر للمثقف الحقيقي، بكتابه “دفاع عن المثقفين” فاضحاً الموقف المتخاذل للمثقف “الزّائف” من حرب فيتنام، كما لم يؤمن “سيوران” مثله بالرّأي العام ولا بالشّارع، بل كان عدوّاً للشيوعيّين الذين اعتقلوا أخاه وأصدقاءه وصادروا كتبه، منساقاً وراء ميوله الفاشية والنّازيّة، مشجّعاً شبيبة بلاده على التحلّي بالشجاعة لمواجهة “أقسى العواقب كي تنتصر اللّاعقلانيّة في السّياسة، اقتداءً بالمثل الرّائع ألمانيا، لكي تنبعث رومانيا مختلفة تعيش فعلاً لحظتها التاريخيّة متخلّصة من كلّ الأفكار الجاهزة المخزية، التي من بينها فكرة الحريّة للجميع”.
لكنّ “سيوران” لم يكن لوحده مناصراً لهذا المدّ اليميني المتطرّف في فترة مابين الحربين، بل  شاركته رموز معتبرة بهذا الموقف كـ “مرسيا إلياد، وقسطنطين نويكا وغيرهم” الذين رأوا أنّ ما يمكنه مدّ رومانيا بل أوروبا كلّها بروح جديدة خلاقة تنقذها من الانحطاط هو تنظيم طاقات شبابها على غرار الشّبيبة الهتلريّة. فما أشبه موقف “سيوران” بمواقف بعض مفكّرينا العرب من قضاياهم الكبرى والحروب التي عصفتْ بأوطانهم؟ وقد دعوا  للاستقواء بالآخر الغازي، مبرّرين التّحالف حتّى مع الشّيطان!.
أهو نوع من العماء الفكريّ يا ترى، أو الاسترزاق الوصولي، ذاك الذي جعلهم  ينجرفون وراء الأصوليّات الدّينية والتطرّف اليميني في هذه الحرب المجنونة، التي فتكتْ بأوطانهم، أم ماذا؟. وهل يجرؤ مفكرونا على نقد أنفسهم ومراجعة سقطاتهم، كما ذهب “سيوران”  ذاته الذي عاش حتى 1995م ليقول: “حين أفكّر في بعض حماقاتي السّابقة لا أجد ما أقول، لا أفهم ما دهاني” وفي المقلبِ الآخر للفكرة، هل كان إشهار الفيلسوف الفرنسي “روجيه غارودي” لإسلامه،  يندرج ضمن هذا السّياق من الإفلاس والهلهلة الفكريّة، وهو الفيلسوف الماركسي المنظّر ذو المواقف المنفتحة والمتطوّرة؟. حين برّر التحوّل النفسي الذي هيّأ له أرضيّة الانقلاب هذه، بأنّه كان محكوماً يوماً ما بعقوبة الإعدام ومنفيّاً إلى معسكر في الجزائر، وقد أُعطيتْ الأوامر للحرّاس “المسلمين” بتصفيته هو ورفاقه، لكنّهم رفضوا ذلك رغم تعذيبهم وجلدهم وأصرّوا على الرّفض. وقيلَ له بأنّ دينهم الإسلامي يرفض قتل الأسير غدراً. إنّه يدين ببقائه على قيد الحياة لهؤلاء. ولكن: ألا يحقّ لنا ألّا نصدّق الفلاسفة، والمفكّرين ونحن نرى تذبذبهم من قضايا الحياة المختلفة؟ أم أنّه يجب علينا قراءة فكرهم كصيرورة شاملة قد تتناقض جوهرياً مع تحليلنا الآني للوقائع المرحليّة التي نعيشها إبّان الحدث، خصوصاً وهم يؤسّسون دعائم منهجهم على الجدل والنّقض الدّائم للمنظومات الفكريّة الثابتة، التي قد يرى الآخرون فيها حلولاً ناجعة لمشاكلهم، ألم يدعو “نيتشه” يوماً ما إلى فكفكة كلّ منظومة تدّعي الاكتمال، اليوم، داعياً لتكذيبها غداً؟ وهذا بدوره ألا يتقاطع  مع مقولة “سيوران”: بأنّ الكتابة التي لا تقوّض نفسها بعد أن تقوّض كلّ شيء ليست سوى عبث في عبث؟.

أوس أحمد أسعد