ثقافة

بعد نجاحها الكبير “لا شيء في الحديقة” تجريبية النهج.. شعبية الإيصال

لأول مرة يكون الكاتب المسرحي عبد الفتاح قلعه جي راضياً مئة بالمئة عن عرض مسرحي عن نص من نصوصه من خلال مسرحية “لا شيء في الحديقة” مشيراً أن مسرحيته التي انتهت عروضها مؤخراً على مسرح دار الكتب الوطنية من خلال المسرح القومي بحلب إخراج د.وانيس باندك كانت عرضاً متكاملاً: إيقاع مشدود، تكوينات جمالية، إلقاء متميز ومتمايز، أداء نابض بالحياة والإحساس الداخلي، شخصيات مدروسة بعناية فائقة، فرادة في الحضور والتشخيص، موسيقا معبِّرة، سينوغرافيا ناطقة بالمشهد، واصفاً المخرج باندك بأنه مخرج قدير، والممثلون مجيدون ملؤوا الخشبة حركة وحياة.

لا زمان ولا مكان
ويبيّن قلعه جي أن مقولات المسرحية وصلت بيسر ومتعة إلى الجمهور على مختلف مستوياته، مؤكداً أن المؤلفين غالباً ما يشتكون من أن العروض تخون نصوصهم، إلا أنه اليوم يعترف بأن هذا العرض كان مطابقاً لآماله وتصوراته، وقد احترم المخرجُ النصَّ احتراماً كاملاً ونقله بأمانة، موضحاً أن السنوات الست العجاف التي مرت على سورية، وخاصة مدينته حلب، كان لا بد لها من أن تجد معادلاً في نتاجه المسرحي، بعيداً عن المباشرة الفجة والنقل الفوتوغرافي وجعجعة الكلمات، وقد كان يبحث عن معادل فني يحمل ذلك الحزن وتلك المعاناة، نسغاً يجري في شرايين النفس الإنسانية، وهكذا ولِدَت مسرحيته “لا شيء في الحديقة” تجريبية النهج، شعبية الاتصال والإيصال، تراجيكوميدية التناول، فكرية المقولات المطروحة، فلا زمان ولا مكان فيها، بل هي الزمان كله والمكان كله اللذان عاشتهما حلب من خلال  حديقة واسعة، أسوارها منيعة عالية، من يدخل إليها لا يجد مَخرجاً منها، يتحكم بها قناص يقتل الطيور، وكل ما فيها يتحجر ويموت، كما في مدينة النحاس في ألف ليلة وليلة، وبطلا المسرحية آدم ونوح اللذان جاءا يبحثان عن زوجتيهما، يلتقيان فيها ولا يستطيعان الخروج، ويمر أمامهما عابرون علقوا أيضاً في هذه الحديقة، منوهاً قلعة جي إلى أن المسرحية تعتمد التكثيف في الدلالات والرموز لتشير إلى الواقع السوري في هذه السنوات الدامية من إنسان جديد شعاره القتل وتجار أزمات وسوق نخاسة وحرب، ليكون ثمة أمل، ففي المشهد الأخير يظهر الرجل القناص وقد أعياه قتل الطيور، فالحديقة بدأت تعود إليها الحياة، فيرمي بندقيته ليتحول إلى تمثال من حجر.

مغامرة كبيرة
ويؤكد المخرج وانيس باندك أنه لم يتعود على الاستسهال في خياراته للنصوص التي يقوم بإخراجها، وإنما يحاكي نصوصاً تحترم العقول وتتوجه لأكثر من شريحة فكرية، فالنص يحاكي هذه الحقبة الصعبة من تاريخ سورية ويسلط الضوء على الكثير من مناحي الحياة بأكثر من وجهة نظر، حيث يحتدم الصراع بين فكرين متناقضين على الخشبة، مشيراً إلى أن النص من نوع السهل الممتنع، والتصدي له لم يكن بالأمر السهل، لذلك كان لا بد من معالجة خاصة لبعض جزئيات النص، مع المحافظة على خصوصية الكاتب واحترامها، وقد تمت مراعاة وجود أكثر من شريحة فكرية على المقاعد، مع الإيمان بأن العمل وصل لمعظم الشرائح، في حين أن الشكل الفني الذي اعتمده باندك في إخراج هذا النص جاء من خلال المزج بين المسرحين التجريبي والكلاسيكي وذلك لإيصال أفكار النص وأهدافه التي تعددت في كثير من المفاصل، فقدم العرض في أجوائه شكلاً من المسرح الطليعي، مبيناً باندك أن خصوصية تجربته “لا شيء في الحديقة” تكمن في أنها نتاج حرب خاضتها حلب نصاً وإخراجاً، فالنص كُتِب عام 2015 وتم تقديمه عام 2017 على خشبة دار الكتب الوطنية، واختيار المكان كان متعمداً من أجل إعادة الروح لهذه الدار التي طالما كانت صرحاً حضارياً وثقافياً لهذه المدينة وتاريخها، وهذا الخيار بحد ذاته يُعتَبر برأيه مغامرة كبيرة، حيث كان الإرهابيون قبل أقل من سنة يتمترسون في محيطها، معترفاً أنه فوجئ بالحضور الجماهيري الراقي والرائع كمّاً وكيفاً من خلال إصرار الجمهور على الحضور لهذه الدار، وحبّهم وشغفهم بالعرض مما زاد جماله جمالاً وأهمية، خاصة في هذه المرحلة.

الطابع التجاري
ويؤسف باندك أن بعض العروض التي قُدِّمَت سابقاً لم تكن بالمستوى المطلوب، بما فيها تلك العروض التي كانت تحاكي الحدث لغلبة الطابع التجاري عليها، فلم ترتقِ إلى مستوى الحدث لا شكلاً ولا مضموناً، وهناك أسباب لذلك برأيه، أهمها هجرة الكثير من الفنانين خارج حلب بحثاً عن الأمان والعيش، وواقع سكان حلب المعاشي واليومي، وأن واقع المسرح بحلب مرتبط بالظروف المعاشية، مع إشارته أن هناك تحسن واضح في الآونة الأخيرة بعد تحسن الظرف الأمني والظروف المحيطة، وقد دأبت مديرية الثقافة على تنشيط العمل الثقافي بما فيه المسرح، ولكن على المستوى الفني ما زال الطابع التجاري برأيه مهيمناً على الساحة المسرحية بسبب انتشار هذا النوع من المسرح قبل الحرب الذي لم يرتقِ للشكل الفني المطلوب، لتكون الأعمال التي قدمها باندك خلال تجربته بشكل عام محاولات لاختراق البعد الإنساني والاجتماعي لطبيعة شعبنا، من خلال الواقع أو البحث في أعماق التاريخ الحضاري لهذا الوطن، رافعاً السقف الفكري والفني في محاولة لتحريض الإنسان ليكون بالمستوى اللائق لإنسانيته روحاً وجسداً في مواجهة تحديات هذا العصر بكل همومه ومشكلاته.
ونوّه باندك إلى أن علاقته مع الكتّاب الذين تعامل معهم علاقة ودٍّ واحترام لأفكارهم وللشكل الفني لنصوصهم، وهو عادة يعمل على الاستفادة من مفردات النص ليقدمه بالشكل الذي يخصه فكرياً وفنياً وهو يعتز بعلاقته بالأديب عبد الفتاح قلعه جي الذي بدأ منذ ستينيات القرن الماضي وتميز بمسرحه التجريبي والطليعي المتأثر بكتّاب هذه الاتجاه في العالم والذي أعطاه قلعه جي شكلاً وخصوصية، مستلهماً التراث والتاريخ العربي، وهو كمخرج ومن خلال هذه الرؤية تعامل مع نص “لا شيء في الحديقة” وقد كانت مغامراته الفكرية والفنية حين دخل إلى تلك الحديقة رغم درايته أن القناص الذي يتربص بالبشر يتربصه أيضاً، فكانت مغامرة فكرية وفنية جميلة وممتعة.
الممثلون المشاركون في “لا شيء في الحديقة”: ياسين عدس، حسام خربوطلي، عبير بيطار، مروان إدلبي، سمير الطويل، رضوان سالم، طارق خليلي.. سينوغرافيا وديكور إبراهيم المهندس، موسيقا وضاح كوريني، إضاءة عمار جراح.
أمينة عباس