ثقافة

الخلود بين الأنياب وربطة العنق

في الطبيعة وبسبب طبيعة الصراع على “البقاء” القائم بين أفرادها بمختلف أشكالهم، تبقى غريزة التكاثر هي الأكثر إلحاحا من باقي الغرائز الأخرى، لأنها تحمل صفة الديمومة، التي عجز المخلوق أو الكائن، عن الوصول إلى سرها ليصبح خالدا، كما فعل “جلجامش” مثلا في بحثه الأسطوري عن عشبة الخلود، لكنه واسى نفسه بالخلود عن طريق توريث جيناته لأبنائه، وأيضا بما تركه من عمران “سور أوروك العظيم” الذي سيبقى يشير إليه، وهكذا يستمر الحال، منذ تلك اللحظة التي سعت فيها المخلوقات، للإفلات من قبضة “الموت” الذي يذهبون إليه ولا يعودون، وعمل كل جنس على تطوير نفسه وما يتناسب وقدسية هذا الخلود المنشود، فسمك السلمون مثلا يتخلى عن حاجته للطعام يعد هجرته الملحمية ليصل مساقط المياه العالية التي ولد فيها، من أجل التكاثر، ليموت منتحرا من الجوع والتعب بعد أن يكون قد اطمأن على جيناته مستمرة.

وهكذا تتحكم الطبيعة تقريبا بمفهوم أرقى وأعلى وأكثر ذكاء وتكيفا، في تفضيلها بقاء القوي واستمرار جيناته، وذلك بخلقها ذلك الصراع الغرائزي من أجل هذا الهدف، التكاثر والبقاء، ليتصارع أكثر من ذكر في مجموعة من الأسود مثلا على حقه في التكاثر باعتباره الأكثر قوة والأكثر قدرة على توريث الجينات القوية، وبعد صراع دموي، ينتصر الأقوى ويفوز بجميع إناث المجموعة، وينسحب الخاسر، وفي هذا اتفاق ضمني أيضا من أفراد الطبيعة أنفسهم على أهمية هذه الطريقة لأجل البقاء والاستمرار الأمثل، وهي تسمى في العلوم الطبيعية بـ “قانون الاصطفاء الطبيعي”.

الإنسان أيضا يكمن الهدف الأسمى لديه في مرحلة وجوده في التكاثر من أجل البقاء واستمرار النوع، مهما أدعى أن له غايات مصيرية أخرى، وإن كان التقليل من شأن تلك الغايات التي هي في جوهرها، تلبية لحاجة غرائزية بحتة، لا يمكن تجاهله وتجاهل سطوته –الجوع مثلا- لكن موضوع الحفاظ على النوع، هي مهمة جماعية يعرفها جميع أفراد الجنس البشري، لكنهم وبسبب انتصارهم على باقي شركائهم في الحياة على الأرض من الحيوانات الأخرى، باعتباره أي الإنسان علميا، هو حيوان متطور،وموجود في أعلى القمة الهرمية الغذائية، فنحن كبشر قمنا بتلطيف الأساليب لتحقيق هذه الغريزة الخالدة، البقاء والاستمرار. قلّمنا أظافرنا، وشحذنا أنيابنا، وعوض الجلد القاسي والسميك الذي كنا نحمله فوق عظمنا ولحمنا، صرنا نرتدي بزات أنيقة، تتلاءم ولون ربطة العنق والحذاء أيضا، وهكذا عمل الإنسان وفق مراحل تطور حياته الاجتماعية والإنتاجية، إلى تغيير شكل هذا الصراع الدموي إلى صراع حضاري أكثر، فالمنافسة الدموية التي تحصل بين ذكور “البوفالو” للفوز برضى أكثر من أنثى في القطيع، هذه المنافسة صارت عندنا وفي الفوز بقلب المرأة وبرغبة رحمها أيضا الذي سيحمل الشيفرة الوراثية المكملة لغريزة البقاء، جعلناه تنافسا وفق حروب جديدة ومتنوعة، منها حاليا التنافس بعدد السيارات والبيوت والأرصدة البنكية، والتنافس القائم بسبب ظروف اختلاف المجتمعات وأهمهما الاختلاف الديني، الذي لا زال يحكم منطق الصراعات العالمية كواجهة لحروب الذهب الحقيقية، ولم يزل قائما بيننا نحن البشر في كل العالم، أيضا تلعب المكانة العلمية والحالة الاجتماعية والمنبت الطبقي دورا كبيرا في حسم هذه الحرب المعلنة بين الذكور المطالبين بحقهم في البقاء والاستمرار وتوريث جيناتهم، -في بعض الشعوب مثلا، المرأة هي من عليها أن تسعى للفوز بقلب الرجل، كما أن أنثى الشمبانزي، الفصيلة الأقرب للإنسان، هي من تنتقي ذكرها، وما لم يكن ذكرا قويا وقادرا على حمايتها وأطفالها، فإنها تعيره أي انتباه.

وكان من الطبيعي خلال هذه الرحلة الطويلة من التطور الطبيعي البشري، الذيّ لا ريب أنه مرّ بمرحلة الاصطفاء الطبيعي، ولا يزال يمرّ فيها في غالبية بلدان العالم الثالث، حيث وحدها البنية القوي الموروثة من الآباء، هي من تجعل طفلا في أفريقيا يصمد أمام الجوع لعدة أيام فينجو، بينما طفلا آخر غيره، لا يستطيع الصمود، فهو لم يحمل الصفات الأكثر قدرة على الاستمرار، لذا يموت على مرأى العيون التي تشاهده وتتعاطف بالدموع!، وكان من الطبيعي أن نطور أنماط حيواتنا أيضا ونحن في طريقنا نحو تلطيف غرائزنا، نحمل الورد، ونكتب الرسائل، ونرش مغلفاتها بالعطور، ونهدي الأغاني، هذا بالنسبة للرومانسيين، غيرهم يضع مثقال وزن المرأة التي يريد أن تكون شريكته في الخلود الجيني ذهبا في يوم العرس، أو يشتريها بجزيرة خاصة بها.

ورغم كل التطور التقني والتكنولوجي المذهل الذي وصل إليه الإنسان وفي شتى مناحي الحياة، إلا أنه لا زال مستمرا في السير على قدميه مثلا، وفي الأكل، وفي الشعور بالبغض والكره، وغيرها من الصفات الطبيعية التي تكون من صلب بنيته الفكرية والجينية، لذا لا نعجبن اليوم من رؤية من يأكل لحم أخيه، ومن يبيد ألوفا مؤلفة من الناس لشقهم عصا طاعة ذاك الأمير المتهور أو ذاك “الكابوي” الأرعن، فالإنسان ومهما حاول أن يخفي تلك الأظافر الحادة النافرة أيضا من عينيه، فإنه في لحظة ما وفي ظرف ما، لن يتوانى عن استخدامها حتى وقلبه ينبض حبا، أو “توسترونه” يندلع وكأنه بركان صغير هائج.

مفهوم “الخلود” الذي وجده الإنسان لا يتحقق إلا باستمرار المورثات الجينية، وانتقالها من جيل في العائلة الواحدة إلى جيل آخر لها، ليس إلا واحد من الحلول التي لم يستطع التخلي عن منطقها الدموي أحيانا، والذي لا يختلف في فكرته عنه عن فكرة وحوش الغابات، التي لا تزال ضمن نطاقها الطبيعي في التعامل مع هذا الشأن، بينما ادعينا الرقي والتطور!.

تمّام علي بركات