خصوصية الغناء والموسيقا في حلب
“كلما رحبتْ بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنت السبيل” ببيت الشعر الشهير للمتنبي بدأ الباحث وضاح رجب باشا محاضرته في مركز_أبورمانة- بعنوان حلب بين اللحن والمعنى، واتخذت طابع الندوة المرئية- السمعية في مقتطفات الفيديو للأمسيات الموسيقية ولمعالم حلب وجغرافيتها، وركز الباحث عليها ليتطرق من خلالها إلى مكانة حلب وخصوصيتها بالتراث الغنائي والموسيقي الذي تتفرد به، ليخصّ رائد الموشحات عمر البطش وصناجة العرب صباح فخري بتحليلات خاصة.
استهل الندوة معاون وزير الثقافة د.علي المبيض بالحديث عن دور وزارة الثقافة من خلال مثل هذه الندوات بالتأكيد على التمسك بالهوية الثقافية الحضارية لسورية، وندوة اليوم تعد إضاءة على اللحن والمغنى في حلب التي تتمتع بنوع خاص من التراث الموسيقي الزاخر المتنوع والذي تنفرد به عن بقية المحافظات من حيث الموشحات والموسيقا التراثية المتنوعة بالأدواروالقدود والموال وما يرافقها من طقوس رقص السماح.
وتحدثت السيدة رباب أحمد مديرة المركز عن الربط بين ندوات الموسيقا والأمسيات التي يقيمها المركز وتقدم أصواتاً جديدة وتهتم بإحياء التراث الغنائي والموسيقي.
التمازج بالألفاظ
بدأ الباحث بالحديث عن حلب عاصمة الموسيقا التي لُقبت بأم الطرب واشتُهرت بالأصوات الجميلة والألحان القوية، ويأتي شغف الحلبيين بالموسيقا من عشقهم بالجمال إذ وجدوا في الموسيقا كل القيم الجمالية، فتاريخها حفل بما يتجاوز مئتين وثمانين مبدعاً، منهم: أديب الدايخ –سمير جركس-أحمد عقيل –صالح جذبة –الشيخ علي درويش –عمرالبطش- سامي الشوا عازف الكمان الذي كما ذكر الباحث أوصل الإصبع الشرقية إلى العالم متوقفاً عند كميل شمبير الذي درّس في معاهد الأوروبيين وغيرهم ليصل إلى المطربة ميادة حناوي.
وتابع الباحث باشا تحليل الأصوات والموشحات فاختار فيديو لأديب الدايخ مع فرقته بغناء “عاشر أصيلاً إذا جار الزمان يجود” ليتوقف عند ظاهرة انتشرت بالغناء الحلبي وهي التمازج اللحني بين جميع الطوائف والأديان والذي امتد للتمازج بالألفاظ من خلال بعض المفردات الفرنسية كما في الطقطوقة التي قدمها صباح فخري، وفي بدايتها دولاب تألف من مجموعة من الجمل الموسيقية للسلطنة:
“وحياة عينيه ما ميل للغير/ونا كلامي بارول دونيه” أي كلامي صادق
ثم تحدث الباحث عن الفروقات الفردية بين المطربين بأسلوب الأداء والانتقال بين المقامات والتوقف عند القفلة من خلال عرض مقتطفات من إحدى حلقات مسلسل عرس حلبي، فتوقف عند موال نهاد نجار” لوبت سهران طول الليل أنا جيلك” إذ نوّع كما ذكر الباحث بالانتقال من مقام العجم للصبا للرصد بحرفية عالية لتأتي السكتة المقامية هادئة، بينما أدى مصطفى هلال موال” يا أسمراللون على شانك نشف دمي” المترافق مع الناي وبقي على مقام الصبا مع تحويلة صغيرة في نهاية الموال، ليتبع هذا الموال مقطعاً من غناء الملحن عازف العود بكري كردي للقد الشهير” ابعتلي جواب وطمني”.
المدلل ورقص السماح
وكان صبري المدلل ركيزة أساسية في الموشحات والفنون الحلبية فركز الباحث على هذا الوشاح الكبيرالذي يعدّ أحد أعلام الموسيقا ويمثل حالة نادرة إذ حافظ على جمال صوته وقوته حتى بلوغه التسعين عاماً، وأشار إلى أنه أغنى الموسيقا العربية في مجال التلحين والغناء وحافظ على الموشحات وأعطاها بعداً جديداً يتناسب مع واقع الحال، فكان بمكانة سيد درويش في مصر، ليتوقف عند التطور الهام الذي أحدثه في فنّ رقص السماح الذي ابتكره الشيخ عقيل المنبجي المتصوف وحوّل نغمات وإيقاعات التواشيح الدينية التي كانوا ينشدونها في الزوايا الصوفية إلى حركات موزونة تتم تأديتها بالأرجل واتخذت سمة الرقص الرتيب، إلا أن أخرجه عمر البطش من إطاره الديني وأدخل العنصر النسائي في أدائه بأزياء محتشمة وأصبحت تؤدي الرقصات على نغمات وإيقاعات الموشحات والقدود الحلبية التي تقدم على شكل وصلات، كل وصلة من مقام ولكل وصلة من الموشح رقصة خاصة وفق وزن وإيقاع الموشح، ومن أجمل الرقصات التي رافقت موشح” لما بدا يتثنى” وموشح ” إن طال جفاك يا جميل” ثم عرض مقطعاً من موشح “يا فاتن الغزلان”،
” والليل عليّ طال طال والدمع سال سال ” الذي عدّه الباحث تفريدة رائعة تميزت بتغيّرالمقامات.
القفلة الحراقة
ومن عمر البطش إلى صباح فخري الذي أدى مختلف فنون الموشحات والقدود والمواويل وأوصل الموشح الحلبي إلى العالم حتى لُقب بصناجة العرب، ليتوقف الباحث باشا عند خاصية القفلة المميزة لديه والتي أطلق عليها عبد الوهاب ” القفلة الحراقة” فعرض عدة موشحات تميز بها صباح فخري منها موشح “منيتي عزّ اصطباري زاد وجدي والهيام” والموال الذي صنف من أجمل المواويل” من يوم فراقك” فاضت دموعي حزن وابيض طرفي من كثرالتاسف، وبعض القدود مثل” قدك المياس”.
كما توقف الباحث عند صوت صفوان العابد الذي تميزكما ذكربنكهة خاصة بموشح” زارني المحبوب”
” ثغره المرغوب عاطرالأنفاس” ليصل إلى مطربة الجيل التي أبدعت ب” أنا بعشقك”
التحولات الموسيقية
وفي القسم الأخير من الندوة نوّه الباحث إلى التحولات التي قام بها مبدعو حلب من خلال الأغنيات الدينية التي كانت تؤدى في جلسات الذكروالمناسبات الدينية واستبدالها بكلمات غزلية مع الحفاظ على اللحن الأصلي مثل القد الجميل ” يا الأسمر اللون يالأسمراني” ويعود أصله إلى الأغنية الدينية والتي مطلعها” عليك صلى الله يا خير خلق الله” ولم تقتصر التحويلات على الأغنيات الدينية وإنما الشعبية أيضاً فبعض القدود الشعبية تعود إلى أغنيات شعبية مثل قد “تيمتني عن سواها أشغلتني” الذي نظم كلماته الشيخ أمين الجندي الحمصي على وزن أغنية شعبية كان يرددها الناس” جوجحتني مرجحتني دوختني ذللتني” ليخلص إلى أن حلب المدينة الوحيدة التي تميزت بألوان خاصة بالغناء لاتشابهها في ذلك أية مدينة عربية أخرى.
ملده شويكاني