“عرض البحر”.. تناقضات الواقع ومفارقاته
تناقضات متعددة لمفاهيم حياتية متعددة طالت الموت والحياة، العدالة والظلم، الفقر والثراء، الصدق والكذب، الحقيقة والخيال، تلتقي مع الطفولة المعذبة واليتم والحرمان والاعتداء على الآخر لاسيما الأطفال الذين يعملون ليجدوا لقمة العيش، في العرض المسرحي “عرض البحر” عن نصّ سلافومير مروجيك، لتنسحب إلى عمق تفاصيل الحياة اليومية برسائل مبطنة، أظهرها المخرج مجد فضة من خلال كاركترات الشخوص من حيث الشكل الخارجي والإيماءات التعبيرية والانفعالات بعيداً عن المبالغة، ليصل إلى إثارة المتلقي وتحريضه بالتفكير بمشهديات اجتماعية تمرّ أمامنا ونلمحها ليمرر رسالته الأخيرة بأن القوي يقضي على الأضعف.
اعتمد المخرج بالدرجة الأولى على أداء الممثلين بعرض تجاوز الساعتين بشكل مستمر وبمشهدية مسرحية واحدة تومئ “ثلاثة صناديق خشبية وصنارة الصيد والخلفية الزرقاء” بأن الأصدقاء الثلاثة في عرض البحر بعد أن نفد الطعام لديهم ويتصاعد السياق الدرامي ليفكر الثلاثة باختيار واحد منهم يكون الضحية ليعيش الباقيان. ليصل المخرج مع مقولة النص إلى أن الناس تقتل بعضها إذا اقتضت الضرورة وفق مقولة الغاية تبرر الوسيلة، والأمر اللافت أن المخرج ابتعد عن المؤثرات الفنية وعن التركيز على الأصوات لاسيما صوت أمواج البحر رغم أن المكان الأساسي هو البحر، ليكون الممثل هو الورقة الرابحة التي راهن عليها، واستعان بمقاطع من أغنيات أحمد عدوية التي وظّفها لإظهار تناقضات حياتية ترددت في الحوارات السردية المتناوبة للأبطال الثلاثة مثل الأغنية الشعبية التي وصفها أحد الأبطال بالفنّ الأصيل، وبأغنية عبد الحليم”عايشين سنين أحلام” التي عبّرت عن رسالة العمل، كما انسحبت التناقضات على وصف الشخوص الغائبة مثل لانسي الأوروبية التي تتسحر وتصوم، وارتداء الأبطال الجاكيت الرسمي دون قميص وهم حفاة، وفي التركيز على تدخين الأبطال المتواصل في مواضع متعددة في العمل في الوقت الذي لايوجد فيه طعام، وظهور موظف البحر ليردد “بلطوا البحر” وهو غير مبتل من الماء. ليبني المخرج النص على إسقاطات واقعية تحدث الآن، ويترك النهاية مفتوحة لإشراك المتلقي فيها دون الإشارة إلى إمكانية الوصول إلى الشاطئ وهذا يعني الموت للجميع. يشارك في البطولة (الفرزدق ديوب ومجد فضة ووسيم قزق وياسر سلمون) وخلال التصاعد الدرامي الذي مضى برتم متسلسل يُكشف سرّ كل شخصية لتتقاطع جميعها بحالات إنسانية موجعة.
السرد بمنطق بحثي
الفنان ياسر سلمون الذي جسد دور الضحية رضا الذي يمثل الأشخاص الذين يحلمون بالحدّ الأدنى من الحياة لابوجود أشياء مستحيلة، هو أنموذج لكثيرين لن يموتوا كما يريد لهم البعض، مستشهداً بإحدى مقولات المسرح بأنه يجب أن يعكس الحياة كما ينبغي أن تكون لا كما هي، ليتابع عن خصوصية النمط المسرحي السردي الذي وظّفه المخرج في اعترافات شخصية، والبوح عن مكنونات خاصة تحفر مكاناً في الذاكرة، ليقول: استخدمنا السرد بمنطق بحثي، أما عن الإسقاطات الحياتية التي طالت الأمكنة والأحداث والخطوط الاجتماعية فيقول: لانستطيع أن نغمض أعيننا عما يحدث في بلدنا.
وأوضح المخرج مجد فضة بأن العمل لايتناول حكاية مجردة وإنما يبحث برحلة الحياة لكل شخص بعيداً عن الإجابات المتوقعة لمواجهة الوجع من خلال الأطوار التي يمرّ بها الإنسان بيومنا العادي لأنه مليء بالعبث والدهشة والتساؤلات كيف نستطيع أن نستمر ونضحك ونحب ونعمل ونكذب في يومياتنا، أما عن اعتماده على -اللوكيشن الواحد- فلأنه كما يقول يشبه يومنا العادي، وحينما ننتقل من مكان إلى آخر نشعر أيضاً بأن هذا المكان ثابت، وعن كاركترات الشخصيات وفيما يتعلق بظهور الممثلين بسترة خارجية دون قميص وهم حفاة أوضح بأنه تقصد إظهار الازدواجية بين الواقع وبين شخصيات غرائبية بارتداء أزياء تنتمي إلى الحياة الواقعية ولكن بصورة غير مألوفة.
ورأى الفنان أحمد الحلاق أن المخرج استطاع بحرفية أن ينقلنا إلى مسرح مغلق إلى عرض البحر وبإيقاع مرن وسلس وبحوار رائع، ليتوقف عند خاصية التصاعد الدرامي للمسرحية ككل ودقة اختيار الأغنيات لاسيما أغنيات عبد الحليم حافظ المناسبة لتناقضات الأحداث، إضافة إلى الحسّ الكوميدي الذي نجح من خلاله الممثلون بإضحاك الجمهور بعفوية وصدق.
أما الفنان محمد حلوم فأشاد بطاقات الشباب “مخرجاً وممثلين” إذ تمكنوا من اللعب على الشخصيات بشكل لافت، مركزاً على اختصار العرض.
مغامرة تشدّ المتلقي
وتمحورت مداخلة د.جمال عبود الأستاذ بالمعهد حول أهمية العرض بالاعتماد فقط على أداء الممثلين وهذا غير مألوف لا في المعهد ولا في المسرح، فلم يعتمد المخرج على أية مؤثرات على صعيد الإضاءة والديكور والموسيقا، كان جسد الممثل الحامل الوحيد لأفكار المخرج والنصّ، ووصف عبود هذا بالمغامرة خشية أن يفقد المتلقي التواصل مع السياق الدرامي للعرض، لكن أداء الممثلين الجيد مكّن الكثير من الحاضرين من استمرار حالة التواصل معهم، لينجح العرض في النهاية بتحريض المتلقي بصورة استفزازية لإعادة النظر بكثير من المسلمات التي عادة لانناقشها، فكثير من القضايا طُرحت وتتالت ليجد أي واحد منّا بأنه ليس أمام خيارات وإنما ينتقل من قهر إلى آخر ومن خيبة إلى خيبة ومن تحد إلى آخر، فالعرض لايوجه رسالة وإنما يحثّ على مواجهة كل شيء. ليخلص إلى أن الأمر الهام بعد العرض أن نشعر بأن الأسئلة تلح علينا وهذه مهمة المسرح.
دعم خريجي المعهد
وربما يطرح سؤال لماذا عُرض هذا العمل في مسرح سعد الله ونوس في المعهد؟ لتجيب عميد المعهد العالي للفنون المسرحية السيدة جيانا عيد بأن المعهد معني بدعم خريجيه للتعبير عن قراءاتهم لواقعهم وأحلامهم ورؤاهم، بالارتقاء عبر حراك مسرحي شاب، وعروض مسرحية مسيسة بهذا الواقع حتى لو تم ذلك من خلال اختيار نص مسرحي عالمي واصطفاء ما يعنيهم منه لخدمة هذا الواقع بعروض تمثل شهادتهم على العصر بطريقة خلاقة لشباب سوريين، خاصة بعد حرب دامية لإنهاء وجودنا السوري، ورغم المعاناة والدمار والموت إلا أن الحراك المسرحي المبدع لم يرضخ ولم يتوقف، بل ضخ المسرحيون ومنهم الخريجون من خلال المنافذ التي وفرت لهم وخاصة المعهد، الأمل بتجاوز الواقع بممارستهم الفكر المبدع الخلاق بصدق وببساطة تعبيرهم وبأهم الأدوات وأكثرها تطوراً وإدهاشاً.
ملده شويكاني