ثقافة

حياة طارئة..

قبل بضعة أعوام لم يكن في بيتنا انترنت.. كان الوالد يتابع أخبار السياسة أولا بأول لذلك يشتري الجريدة اليومية وكنا نتحايل عليه، أنا مثلا أسرق صفحة الفن والثقافة وأخي يسرق صفحة الكلمات الضائعة، وأختي الصغرى تقص صفحة الإعلانات بحثاً عن وظيفة.. أما أمي فعلاقتها بالجريدة كعلاقتي بالسياسة والسياسيين سطحية وغامضة.. وهكذا نوزعها بيننا.

كانت همومنا صغيرة بحجم برعم، وربما لم تكن كذلك، ولكن قياساً بما آلت إليه الأمور بعد الحرب اللعينة، بتنا نراها بهذه الضآلة وربما لم نعد نذكرها..

في الحقيقة جاءنا الانترنت بالوقت الضائع والمناسب بذات الوقت رغم الكثير من سلبياته على مجتمعنا العربي، لكن هذا الفضاء الواسع المترامي العلاقات جعلنا بلحظة من الوقت نتعرف على هموم ومصائب الآخرين بغير مكان وبنفس الزمان، مما خفف قليلا من وطأة مآسينا على مبدأ (من يرى مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته).

بدّلتنا الحرب والنت كثيراً جعلوا منا المثقف والشاعر والمراقب والصحفي وناقل الخبر أول بأول وهو يأخذ فنجان قهوته في مقهاه المفضل.. أصبحنا أناساً بقوالب جديدة طارئة خلقت من رحم الوضع الراهن..

شردتنا الحرب.. أختي ضاعت بموجة الحرية المزعومة التي اجتاحت البلاد.. أخي المسكين كبر فجأة وهو الآن موظف في الجريدة ذاتها حارساً.. وأمي كل صباح تمارس تمارين البكاء والقهر وتلملم صفحات الجريدة وتلمع بها قلوبنا وأرواحنا.. أما أنا ومع مرور كل هذا الإعصار لا أدري حقيقة أين أنا وإلى أي شيء تحولت بجملة التحولات العظيمة التي أصابتنا، ولكن على ما أعتقد بدأت تظهر ملامح التمسحة على وجهي..!!

الفكرة التي تخيفني الآن أكثر من الموت والحرب هي فكرة أننا أحياء فعلاً.. وما هو مخيف أكثر من فكرة أنك تحيا في مثل هذا العالم؟ ما هو مخيف أن تفتح نافذتك الزرقاء لتكحل عينيك بصورة لطفل ما في مكان ما في هذا العالم تقابل مع صاروخ وجها لوجه وابتلعه، وأنت مكانك تتلقى الخبر كمستمع مخدر يشاهد نشرة الأخبار وهو منتشٍ للآخر على وقع أخبارها المأساوية..

هل هناك ما يخيف أكثر من ذلك الآن؟!

حقيقة الموت لا يخيفني أبدا.. المخيف أننا أحياء، والمخيف أكثر أننا مخدرون لدرجة أنني لا أبصر السماء وهي زرقاء.. أرجوكم لا تسألوني ما الحل لأني لا املك أي حل صدقوني..

على كل حال تعالوا نراقب العصافير ونسأل أنفسنا لماذا يحدث هذا الكم الهائل من الخراب في العالم..؟! ونسأل بابا نويل لماذا كيس هداياه فارغ هذا العام.. والنجمة التي تلمع بشدة في السماء هل هي حقا قمر صناعي يتجسس على أرواحنا ويسرق منا الفرح كل صباح..!!

لينا أحمد نبيعة