التّناصّ بين ملحمة الزير سالم و أسطورة “أوزوريس” يعكس الصّراع بين الرّاعي والفلّاح
إلى أيّ حدّ يمكن للأسطورة أن تؤرّخ الواقع، أو مستوى منه؟ أم أنّ قراءتها لا تتعدّى المتعة والتّندّر والتّخييل باعتبارها تعكس طفولة العقل البشري، وهل يجب وضعها بمصاف الأحلام المأمولة أو التي يُخشى من وقوع أحداثها، فتأتينا بلغة رمزيّة في الحلم، شرحها إريك فروم في كتابه “اللّغة المنسيّة مدخل إلى فهم الأحلام والأساطير”؟. إنّ أحلام ملوك اليمن “سبأ وحِميَر” المتعاقبين كانت تنبئنا دوماً بلقاء ملك بنبيٍّ في حلمه وحين الاستيقاظ يشدّ الرّحال بحثاً عنه،وهم المهجوسون بالتّفتيش عن دينٍ جديد ليعتنقوه، بعد أن تنازعتهم اليهوديّة والمجوسيّة وبعض المعتقدات الوثنيّة الأخرى، دين يأتي من فرعهم القحطاني الجنوبي، لكنّه آتٍ من فرع أبناء عمومتهم الشماليين العدنانيّين. ورؤيا ربيعة بن نصر بن مالك الحِميَري توضّح ذلك ملخّصةً قراءته الواقعيّة لمجريات الأحداث حوله والمتجلّية بالتّهديد الحبشي لمملكته وإشارات انهيار سد “مأرب” المتصدّع الذي كان يحمي حضارتهم الزراعيّة المستقرّة يقول الحلم: (حممة خرجتْ من ظلمة فوقعتْ في أرض تهمة “تهامة” فأهلكتْ كل ذي جمجمة) وحين شرح له الكاهن “سطيح” معناه مؤكّداً الخطر الحبشي الذي يتهدّده قائلاً: (ليملكنّ أرضكم الحبش مابين أبْيَن وجُرش). ما كان من “ربيعة” إلّا أن شدّ الرّحال بعد الرؤية نحو بلاد الشام أي نحو الحدود البيزنطيّة. سنحاول في مقالتنا هذه توضيح دور الأسطورة في تأطير منحى واقعي للأحداث يسرد التاريخ ولا يسرده. يتساءل الباحث “فاضل الربيعي” في كتابه “الشّيطان والعرش”: هل أحداث الملحمة الشعبيّة “الزير سالم” وقعتْ في الفسحة الجغرافية الممتدّة بين الحجاز وديار بكر التي تضمّ “خولان” الموصل حاليّاً؟. تقول الأسطورة المصريّة:
(قال “أوزوريس”: ما أعظم عمل يستطيع الإنسان أن يفعله؟ قال “حورس”: الثّأر)
وتقول الملحمة الشّعبيّة “الزير سالم”: زحفَ الملك اليمني الحِميرَي “التّبّع” حسان مستعيناً بابن أخته “الرعيني” الذي مدّه بالذّخائر، إلى بلاد الشام حيث مواطن “ربيعة” في ديار بكر الملحقة بتركيا حالياً، وأشعل حرباً ضروسا بعد تفسير رؤياه من قبل وزيره، بأن هناك من هو أكثر مالاً وفرساناً منه وهو “ربيعة من بني قيس” مصمّماً على قتل ربيعة. وتمكّن من ذلك لكنّه اغتيل على يد أخيه “عمرو” ثمّ تفاقم الأمر بعد مقتل “كليب” سيّد ربيعة التالي على يد ابن عمه “جسّاس” ليقرّر الزير سالم أخ كليب الأصغر الأخذ بثأره من أبناء عمومته. وقد أشار البعض إلى أن الحرب خِيضتْ في إطار الصّراع الديني بين الحبشة وبلاد فارس من خلال وكلائهما في المنطقة. وتناصّ الملحمة مع أسطورة أوزيريس المصرية يراه الباحث الربيعي، من خلال تطابق الاسم “زير مع أوزوريس” أولاً، ثم من خلال الأحداث النهائيّة حيث جمعت أخت الزير أشلاءه المبعثرة ووضعتها في جلد ورمتها في البحر وهو سلوك “إيزيس” نفسه حين ألقت بجثة “أوزوريس” في صندوق ورمته في البحر. وكما التقت ابنة الملك واسمها “استير” جثّة الزّير، التقت زوجة الملك “ملكارتوس” جثّة أوزوريس، وكان اسمها “استارت” وهي نفسها “عشتار” ولعلّ الفكرة الفلسفية هنا تعيد إنتاج قصة صراع الشقيقين “الراعي والمزارع” التي تذكّر أيضاً بقصة صراع “هابيل وقابيل” حيث تقبّل الإله التّوراتي القربان والذبيحة ورفض تقدمة الإنتاج الزّراعي. والتّشابه الآخر في الملحمة الشعبية والأسطورة المصريّة هو بين اسم “حورس، أوراس” ابن أوزوريس واسم “هجرس” ابن كليب اللذين صمّما على الثأر لدم أبويهما المهدور، بعد أن تجلّيا لهما بطريقةٍ ما. كذلك تمّ التستّر على ولادة “حورس” من زواج معيّن حتى كبر، وهذا ما حدث مع “هجرس” أيضاً الذي ظهر على المسرح فجأةً. قُتل أوزوريس الإله الزراعي الذي علّم قومه حراثة الأرض وغرس الأشجار وكان يدعو إلى عقيدة متسامحة تقوم على المحبة والأناشيد والتراتيل والموسيقا، في الصراع الرعوي الزراعي مع أخيه الرّاعي “ست” إله الصّحراء بمؤامرة دنيئة. وقُتلَ الزير شبيه أوزوريس في الملحمة الشعبيّة وهو اللّاهي العاشق المحبّ للصّيد والنساء والغناء والموسيقا. ثم انتقل كلاهما إلى موضوع الثّأر وألغيا سلوك حياتهما السابقة. وكما انصب هم “إيزيس” على البحث عن “حورس” كذلك شقيقة الزير دعتْ للبحث عن “هجرس” الذي كان ما يزال جنيناً في بطن أمه. وقد تمّتْ معالجة الزير بعد رميه في البحر واكتشافه من قبل الصّيادين ليقدّموه للملك الذي سيعالجه ويعيده إلى الحياة، كحالة بعث رمزي تمثّل حالة المواسم الزراعية الفصليّة المتعاقبة، ويعود “أوزوريس” إلى الحياة بعد رمي صندوقه في البحر ورسوّه عند شجرة تظلّله وتبتلعه رمزيّاً، ليأتي الملك ويقطعها جاعلاً إيّاها عموداً يدّعم به سقف بيته. وفي النّهاية يتوّج الابنان “حورس وهجرس” ملكين بعد إنجازهما مهمّة الأخذ بالثأر، لتنتهي الأمور بانتصار ثقافة الصّحراء على ثقافة الزّراعة. وقصارى القول كما يقول الباحث “فاضل الربيعي”: (إنّ التّاريخ وإنْ بدا مترعاً بالخيال إلا أنّه يتضمن عناصر قابلة للقراءة (…) فالميثولوجيا العربية تتضمّن التّاريخ ولا تقوله (…) إنّ تصديقنا للروايات الشعبيّة الخيالية والاستمتاع بقراءتها سيكونا ممكنين فقط عبر اكتشاف حقيقة الرّاسب الثقافي، الفعّال والمستمر في مجتمعنا العربي المعاصر. إنّه تاريخنا الذي يخصّنا وقد نسجت الميثولوجيا حوله خيوطها المتشابكة المعقدة).
أوس أحمد أسعد