ثقافة

دمشق.. إلى حيث يحج الشعراء من كل فج عميق

إنها ليلة شتائية باردة بحساب ميزان الحرارة والأرصاد الجوية، لكن دفئا كانت ترسله دمشق إلى كل بقاع الدنى-جمع دينا-، اشتعل فجأة كقبس من نور، وإليه اهتدى كل من أضاع قلبه بين حواريها، وخشخشة أساور مجد هذه السيدة الجميلة كما لا شيء إلاها.

هي الألفة التي كانت دائرة بصواني المحبة، بينما صار الهرج والمرج بين الأصدقاء يعلو ويخفض على إيقاع أنفاسهم، وذلك في الأمسية الشعرية التي أقامها اتحاد الكتاب العرب على هامش “اجتماع المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب”، أناس محبون وعشاق يقدسون هذه الأرض وطهرها، ضيوف من الأمارات وفلسطين والأردن والعراق والسودان وغيرها، جاؤوا وبأرواحهم شوق له حكاياته التي لا تنسى، فما من صاحب حرف في الأدب، إلا وتعمد نتاجه الأدبي في دمشق، ومن لم يتعمد بماء فكرها، فلا سماء تستقبله، هكذا تقول الأسطورة.
الشعراء الذين استقبلهم الشهداء عند وصولهم بالدروب الآمنة ورايات الفخر المرفرفة، ومن ابتسامات القلاع التي سورت البلاد بسواعد حراس الحق والخير والجمال، ولجوا إلى ملكوت الشام، وهاهم بين أهلها، يلقون قصائدهم بفرح ومحبة، وإكبار وإجلال، لعظمة هذه البلاد، وهي تقف كالسد المنيع والأخير، في وجه القبح والبشاعة، التي نحاربها كسوريين منذ دهور، وعلى الرغم من تأخر هذا الحضور، وعلى الرغم من كون دمشق قيل فيها ما قيل في كافة الأجناس الأدبية والفنية، إلا أنها كعادتها، منها ومن قلبها، حتى وهي تتعالى على الجراح، لا تقبل إلا أن يقف الأشقاء ليحكوا عن بلاد تركوها والألم يعتصرها، وأخرى شعبها ومزاجه العام في واد مجراه الجميل إلى سورية، ومن يريد القطيعة لأبناء الشمس في واد آخر، لحظات من الضحك البديع الذي هو بحد ذاته قصيدة، وهاهم الشعراء يدلون بما فاضت مشاعرهم، حيث تناوب ثمانية شعراء من مختلف البلدان العربية على تحقيق هذه الأمسية الشعرية، التي يمكن أن نطلق عليها عنوانا عريضا يقول “دمشق ملفى القلوب وأجنحة الكلام”.

قل للذين بأرض الشام قد نزلوا
الأمسية التي بدأها مفاخرا الشاعر الأردني “أحمد أبو سليم” بكونه أول من اعتلى منبر الإلقاء في قلب الشعر وبين عرائشه السورية بقوله الحماسي: (فخر ما بعده فخر، أن أكون أول من يعتلي هذا المنبر) موجها التحية العميقة لشهداء سورية، تبعتها قصيدة شعرية تصف بعضا من حسنهم: “دمهم على ورق الشجر/ دمهم تعاويذ الجنون وبحة الصوت المعتق بطواحين القلوب/ دمهم خطانا في الحروب وفي الشعر”، ليلقي بعدها أيضا قصيدة عن غزة وعن القدس، معتبرا أن الطريق إلى تحرير فلسطين وإلى القدس تحديدا، يمرّ في دمشق، بديهة صارت وكأنها من الأعراف العامة التي يتفق عليها كل من كان مع الحق لا عليه.

الأنوثة كنقش جميل في قماش القصيدة
جو من المرح أشاعته الشاعرة الإماراتية “الهنوف” بعد أن “مست” الحضور بالشعر وهي ترخي السلام المعطر بماء الورد على سيدة العالميين”مسا الخير يا دمشق”، الهنوف التي وعلى عادات الشاعرات العرب، ذهبت نحو أن يكون لها لقبا في عالم الشعر تُخاطب به، -والهنوف من الأسماء التي تحمل إيحاء شعريا بدويا جميلا، يدل على الرهافة-، رغم أنها تكتب القصيدة الحرة، لكن اللعب الجميل على المتناقضات في المعنى وعلى الموارب والمختبئ بين السطور، جعل الحضور يتفاعل مع قصائدها الرشيقة الحداثوية، المبطنة بأكثر من إيحاء، ومنها القصيدة التي أثارت كما أخبرتنا جوا من الإرباك، رغم أنها قالتها في ابنها الذي لاحظت أنه يشعر دائما بالعطش، والقصيدة عنوانها “أن أكون أنا أم الحسين” تقول: أن أكون أنا أم الحسين/أتدرون من هو الحسين/ هو العطش بكل ماهيته/ هو عطشي أنا/عندما تعطش الطبيعة وتبخل السماء بمائها/ حينها تتذكره/ تتذكر الحسين”، أيضا نال الرجال “الشرقيون” حصتهم من الهنوف، التي أعادت بقصيدتها هذه الثيمة الجميلة للقصيدة النسائية عموما.
قسوة وألم في شعر العراق
لن تغيب القسوة العراقية الشجية التي تحضر في الفن العراقي عموما، عن القصائد التي ألقاها الشاعر العراقي “جبّار الكزاز” الذي آثر ومن دمشق أيضا أن يحكي العراق، ووجعه وجرحه، وكأنه يشكو لأخوته حزنه وألمه على ما حل بالعراق، وهو يرى بأم العين، كيف أن ثمة رجالا، صارت قضية الأمة قضيتهم، وهاهم يزودون عنها بكل ما يبخل به الآخرون، وبعد التحية لهم ولسورية التي يحج إليها الشعراء، ألقى بعضا من القصائد، التي تنوعت في تقنيتها بين التفعيلة والكلاسيكية، مثل “بستان قريش” القصيدة التي ذهب الشاعر بالدلالات التي تحملها  وفي رمزيتها التاريخية، ليطلق تحذيره أيضا مما يحاك لأهل العراق والشام، وكيف يتم العمل على سرقة حضارتهما،معبرا عن ذلك بعبارات قاسية وصور ملحمية في جانبها القاسي كما سلف مثل “يتسترون بالخوف نكاية بالفرح/ وبحروف العلة نكاية بالمعلقات/ الرجل ذو السيف الخشبي /ذو الساق الخشبية/ ذو السيف الخشبي والكلام الخشبي/ خيول تدك نهود الصبايا” وغيرها من العبارات التي كونت قصيدته والتي استخدم فيها تقنية التفعيلة، إضافة إلى الشكل الكلاسيكي، الذي أعطى ما أعطى من زخم للقصيدة، وكان قد ألقى أيضا قصيدة بمثابة تحية لسيدة يهودية عاشت ورفضت الموت إلا في العراق وطنها ووطن أمها وأبيها.
“يا بائع الصبر/ كم أبهظت بالثمن”، هكذا بدأت الشاعرة الجزائرية “سمية محنش” سلامها، لتخبرنا أنها ما حلمت حلما إلا وتحقق، وهي منذ خمس سنوات حلمت بأنها في دمشق، وها هو اليوم حلمها الذي طال انتظاره يلفها كعباءة، بينما تتوشح ليل المدينة الهادئ في حروفها، قاسيون خلفها يرتفع حتى تطال أكتافه السماء، لتدخل بعدها في طقسها الإلقائي، والذي يغرف من معين أن “الغناء مقود الشعر” فصالت بقصائد الغزل التي تحب أن تسلم على سورية فيها، وكأنه سلام أبدي لا ينتهي: “سأقيم فيكِ وحجتي أن ليس لي وطن سواك”، أيضا جاءت قصيدة “محنش” تمشي على خفر، فيها لطف وعذوبة ورقة “بنت” الجزائر وأصالة منبتها العريق.
من فلسطين أيضا حضر الشاعر “عبد الحكيم أبو جاموس”، يناجي دمشق ويباهي بأنه قادم إليها مباهيا كل الناس في هذا الشرف العظيم، وكان للشاعر المصري الشاب “محمود حسن” أيضا حضوره الذي أكد في قصيدته على ما يجمع بين السوريين والمصريين من ألم مع “شيوخ التكفير” معيدا على الأسماع وفي الأفئدة، كيف كانت قبضة الجندي السوري بقبضة الجندي المصري في زمن لا ريب سيعود مهما طال.

أمير المنبر
إلا أن المنبر كان له أميرا كعادة الشعر، وها هو الشاعر السوري “عبد الكريم الناعم” يخطو إليه وعن رهافته الشعرية يفيض الألق، لتشتعل الصالة بالتصفيق للقصائد التي ألقاها، مختتما تلك الأمسية الدمشقية الراقية، بمسك من الكلام، انسكب برصانة السماء على حدود الغمام، وفي الصدور حطت جمله الشعرية الرشيقة، وصوره المحفورة وكأنها موازييك سوري، راحت تنقر حنطة قلوب الحضور، الذين صفقوا طويلا بأرواحهم أيضا قبل أكفهم التي ألهبها الحنين لعاصمة الياسمين والرجال الرجال.
تمّام علي بركات