الجوائز

حسن حميد

أحسبُ..أن الجوائز، ومنذ أمد بعيد كانت رافعةً من روافع الشهرة والمعروفية، وأن الكاتب والفنان وصاحب الحذق بحاجة ماسة إليها لأنها تشكل مرآة من أهم المرايا التي يودّ أن يواقفها ليرى قامته على حقيقتها عبر مشاعر الآخرين وأذواقهم ونظراتهم إلى ما صنعت يداه، وما جاشت به نفسه، وما شغل به قلبه وعقله في آن! وعادة لا تأتي الجوائز إلا بعد مواقفات عدة يقفها الكاتب أمام مرايا كثيرة منها المقعرة والمحدبة والحقيقية بدءاً من مرآة الذات التي تكون في كثير من الأحيان ضبابية ومشوشة، إلى مرآة الأصدقاء، ونصف ما تبديه هذه المرآة يحتاج إلى رمي في البحر لتلتهمه الملوحة، ومن ثم مرآة الصحيفة والمحبة ودار النشر، ونصف ما تبديه هذه المرآة أيضاً يحتاج إلى ممحاة كبيرة لأنه قشي وقشري وكشيف، إلى مرآة النقاد، على اختلاف مستوياتهم، ونصف ما تبديه هذه المرآة لا قيمة له لأن طقوس المجاملة والرميات الجانبية تخترمه، حين جعلت من القش قمحاً، ومن عرائش الشوك دوالي عنب.
الجوائز لها هيبتها مثل الليل، والغابات، والأودية، والمُغر، والوحوش، والمدن الكبيرة، والطرق الطويلة، والكتب الثقيلة، وخلايا النحل، والنساء الجميلات، وحالات الإغواء، والقلاع، والبحار، والحرائق، والطوفان، وأجمات القصب، وحقول عباد الشمس، والأنهار حين تغضب، والأزهار، وجهجهة الصبح،.. لأن الجوائز، وعلى الرغم من انكشاف غاياتها، محتشدة بالأسرار من جهة، ولأن لها مسارات وتوجهات من الصعب الإحاطة بها أو معرفتها من جهة ثانية! ولهذا كان على الخائض غمارها التريث والتمهل، والقبول باحتمالاتها وما تطلع به على الناس لأن الظفر بها بات يشبه الظفر بطريدة!
والجوائز أيضاً دروبٌ للخيبات، ومدائن للإخفاق والعثرات، وساحات وسيعة لاجترار الحزن، ودارة للندم في غالب الأحيان، وأوقات للانتظار المُرّ، والأسئلة اللوابة، والمنحدرات الزلاّقة، مثلما هي فضاء لتحليق الأحلام التي من النادر أن تصبح وقائع أخبار ومسرات، والجوائز خطوط مشدودة إلى ترسيمات غير بادية؛ ترسيمات أشبه بما تتركه أرجل النمل من آثار وراءها.
كل ذلك تجيش به نفس الكاتب أو الفنان الذي يهفو لرؤية اليد التي تربّت على كتفه، أو النظرة التي تمنحه التقدير الحقيقي أو الذات التي لم تعكرها مذهبيات السياسة وأحياز الجغرافية وخلافات الإخوة الأعداء من أجل أن تهبط الأحلام بمظلة الموهبة إلى الأرض ليصير حلمٌ واحدٌ منها حقيقةً تعاش، ومن أجل افتكاك معنى التكريم للموهبة التي تعمل نسَّاجة في عتمات الليالي سطراً ينير سطراً حتى يطلع النهار الإبداعي حبراً راهجاً، ومعنى آبداً، ومتعةً لا تدانى، ومن أجل محو الأسف متعدد الصور والوجوه والأيدي مثل تجاهل الصحف والمجلات لأدبه، وتجاهل النقاد وعدم متابعتهم لما تصدره المطابع ودور النشر، وصدود منابر الإعلام مثل الإذاعات والتلفزة عن مقاربة الكتب والنصوص المنشورة، واختفاء فعالية الترجمة طيّ آبار عميقة، وانحناء الذات المبدعة أمام مغريات كثيرة لا لبابات لها ولا جوهر ولا معنى، والدنو من حافة الهاوية سوقاً أو طرداً، والرضا بالهجر والصمت والعزلة والإذابة والتلاشي، والاقتناع بأن طبيعة الدروب، أصلاً، ليست مستقيمة، وإنما طبيعتها الالتواء والتعرج والحلزنة!
كل هذا بادٍ مثل الجبال أمام الكاتب والفنان وصاحب الموهبة والباحث عن مساحات ليبني بيته التعبيري أياً كانت القضية التي يصرّح بالالتزام بها، ولعل المخيف الذي يواجه الثقافة العربية، والإبداع العربي معاً في هذه الآونة المشحونة بما لا نحب هو هذه القطيعة ما بين المشاهد الثقافية العربية فلا تواصل ما بين الكتّـاب والكتب والهموم إلا على نحو ذابل مطفأ.. لهذا غدت الجوائز مواسم أدبية وثقافية لكي تبدي أسماءً قرّظتها لجان التحكيم لتكون نايفةً ومن خلالها باتت الأسماء والتجارب الأدبية تتلاقى وتتصادى من أجل همٍّ واحد هو منح الأدب نورانية الاستحقاق!

Hasanhamid55@yahoo.com