“السّمي” وأزمة هوية
لا شيء أكثر دراماتيكية من التفصيل الدقيق لحالات إنسانية واقعية، كالحب الأول، والطلاق، والمرض، والمكالمات الهاتفية الطويلة، كتابة كل ذلك بصيغة الغائب، وبمفردات صادقة لكن بعيدة عن الأسلوب الواضح، تستحضر المزاج السيئ، والشعور بالتفاف الحياة علينا، وبعد ذلك وبكل لطافة تنقلنا إلى جو من الضحك والحماس وحبس الأنفاس، بحيث لا نستطيع ترك الرواية، هذا هو إنجاز جومبا لاهيري، الكاتبة الأمريكية من أصل هندي.
ركزت الروائية، الفائزة بجائزة “بوليتزر” المرموقة عن مجموعتها القصصية سنة 2000 بعنوان: “مفسرة الأمراض”، في روايتها الأولى الدافئة والعميقة “namesake/ السّمي”، على الفجوة بين المهاجرين الهنود وأطفالهم الأمريكيين.
تجري أحداث القصة بين بوسطن ونيويورك من عام 1968 إلى عام 2000، وتبدأ بالتعريف بأشوك غانغولي وزوجته الشابة الحامل أشيما اللذين يعيشان في مدينة كامبريدج، بينما يقوم بالأبحاث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تم ترتيب زواجهما في مدينة كلكتا الهندية، وهذا لا يشكّل مشكلة، المشكلة تسمية ابنهما، قبل سنوات عندما كان في الهند، أنقذت رواية “المعطف” لأب الأدب الروسي “نيكولاي غوغول” حياة أشوك من تحطم قطار، لذلك يريد أن يسمي الصبي باسم غوغول.
يعيش البطل في صراع طويل مع اسمه، فاسمه المؤقت غوغول لا يناسب حياته الجامعية والمهنية، بينما اسمه الرسمي نيكيل، (اضطر والداه لإطلاقه عليه لملء وثيقة رسمية)، ليس بنغالياً ولا أمريكياً، وبتغيير اسمه يشعر بأنه يخون والديه، وسرعان ما تصبح المسألة مثيرة للجدل، وتتم تجزئتها وإطالتها، في الثامنة عشرة من عمره، محب فرقة “البيتلز”، والطالب الجديد في جامعة “يال”، يريد تغيير اسمه لاسم قريب من أسماء زملائه كـ: “الفيس وتشارلي”، والده الآن أستاذ جامعي خارج بوسطن، ولا يتواصل الوالدان اجتماعياً إلا مع الأسر البنغالية الأخرى من الطبقة المتوسطة، لكن غوغول، الشاب المستهتر، يندمج بسهولة مع غيره من الأمريكيين من أصل غير هندي كصديقته الأولى روث، (وهي أيضاً طالبة في جامعة يال).
يذهب غوغول للعمل كمهندس معماري في نيويورك، ويلتقي ماكسين، مؤلفة كتب تبدو وكأنها المرأة المثالية له، يموت والده بشكل غير متوقع- كحدث وجد لملء فراغات خلفتها الحبكة- وينفصل عن ماكسين التي تغادر كروث بعد مشادة (دون تفاصيل أيضاً)، صديقته الثالثة، أكاديمية هندية منفتحة جداً على الآخر، ولا تهتم كثيراً بالثقافة البنغالية كغوغول، تتزوج هذه الأرواح الرقيقة، ولكن موشمي الضجرة غير مخلصة، في النهاية نجد السّمي وحده، وعلى وشك قراءة رواية “المعطف” للمرة الأولى. وعلى الرغم من أن لاهيري كتبت بتأن ودقة شديدين، فشل أسلوبها الإجمالي في التقاط سخرية العلاقات، فهناك الكثير من التوثيق للأحداث دون الكشف عن تفاصيل، مثلاً تغادر روث فجأة على خلفية شجار غير موضح.
ولا شيء في الرواية يبدو غير حقيقي أو غير طبيعي، كلمات كثيرة تدل على التباين بين حياة ماكسين وغوغول، يظهر ذلك جلياً في مشهد تناول العشاء في بيت ماكسين عندما يقول الوالد الليبرالي إنه اشترى لوحاً من الشوكولا الفرنسية التي وقعت منه وتبعثرت، وعندما تذكر ماكسين متحف متروبوليتان للفن أمام والدة غوغول التي تبدو محتارة: “لقد كنت هناك يا أمي، مع كل الخطوات التي مشيناها، أخذتك لرؤية المعبد المصري أتذكرين؟”.
نعم هي رواية تستكشف مفاهيم الهوية الثقافية، والجذور، والتقاليد، والتوقعات العائلية، ولكن من المهم جداً أن الكاتبة لم تستسلم للكليشيهات التي غالباً ما تستتبعها هذه المواضيع، وبدلاً من ذلك، حولت لاهيري الموضوع إلى شيء أكبر وأبسط، قصة رجل وأسرته، حياته وآماله، حبه وأحزانه.
لكن الفكرة التي تجعل من كتابة لاهيري حيوية ومتصدعة بشكل غير متوقع، تكمن في تلك المذكرات الكوميدية لغوغول/ نيكيل، تخرب كل ملاحظات لاهيري قلبك بنضارتها وصدقها، مهارتها في نشر تفاصيل جسدية صغيرة كطريق للشخصية، استثنائية وممتعة.
ويبدو جلياً تأثر الراوية كما شخصيات قصتها برواية المعطف، فهما يتشابهان بالكثير من الأحداث، فالروايتان تعدان سيرة ذاتية ومرئية لحياة بطليهما، لكن عبقرية “غوغول” كلّفت لاهيري 400 صفحة لتستطيع إيصال فكرتها، بينما قدم هو درساً بالكتابة الروائية بثلاث صفحات فقط.
سامر الخيّر