ثقافةصحيفة البعث

من المحاورة إلى الحوار.. قول في أدبية النص الإبداعي

يمكن لبعض النقاد أن يتساءلوا حول جدلية غياب أو حضور المحاورة بوصفها فناً أدبياً، ذلك أن التساؤل في ماهيتها كجنس إبداعي سيبدو مشروعاً، لاسيما إذا عرفنا أن الحوار هو قيمة مضافة، لأنه تراسل وانكشاف بما يضيفه إلى منظومة المعرفة، ولم يعد الحوار من الصحافة إلى الأدب مجرد حوار، بل هو استنهاض لتقاليد ثقافية عرفتها الأدبيات العالمية، ومنها ما يستعاد من حوارات مع بورخيس مع قصص الألف المشهور، وماركيز مع مئة عام من العزلة، وأمبرتو ايكو مع اسم الوردة، وغيرها الكثير مما نجده في صحافتنا الأدبية، خارج طقوس الاحتفاء، بل داخل التجربة الإنسانية واستنطاقها من قبل صحافيين مهرة، وتبقى هنا المسألة الأدبية/ الإبداعية، فيما ينكشف من عوالم المبدع، حينما يجيب بما يعين على تأويل التجربة، وبالمعنى الجمالي والإنساني بآن معاً.

أما المحاورة التي قد نشهد أجزاء منها في وسائط التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، ما قام به الشاعر المبدع حسن إبراهيم سمعون صاحب الديوان السوري المفتوح في حواره مع نخبة من الأدباء، ولاسيما الأديبة رحاب رمضان، ودلالة المساجلات التي حملت عنوان: (غزل وكمشات حبق سورية)، ونقف فيها على عفوية المحكي وجدارته في الامتثال للحظة السورية الفارقة، وكيف “يحايثها” الإبداع متراسلاً مع صورة الجندي العربي السوري، وبطولاته الأسطورية، واللافت فيها تلك المتون السردية التي عكست بتواتر محكيها الشعري قيم الإبداع، ومرايا تحولاته، وصفاء متخيله، انطلاقاً من الصدق الفني الضروري، ومن حساسية المشهديات “المركوزة” في الوعي، والوجدان، وأصالة الذاكرة الوطنية السورية.

لكننا، ومع شمولية الإبداع ووظائفه الآن، وبعيداً عن إشكالية (الانعكاس أو الانكسار) التي تقارب فيها الإبداع الآن، نذهب مع قيم الحوار بوصفه إحياء لتقاليد ربما غيبت بعض الشيء، لكن عودتها باتت تشكّل غير ملمح لعودة نوع تحكم أدبيته طبيعة النصوص الإبداعية وسيولتها، وكثافتها الجمالية المحتملة، في ضوء تطور الذائقة/ ذائقة المتلقي، ووعيه بالأثر الإيجابي الذي تحدثه في وجدانه، وصولاً إلى الوقوف على غير موقف دلالي/ جمالي يصعّد تلك القيم الحوارية والمستأنفة على الأرجح عبر تقاليد الإبداع التي وقفنا طويلاً عندها في الذاكرة الأدبية العالمية، ومنها حوارات: “زينون وأستاذه بارمنديس”، وغيرها، رغم أنها أخذت منحى فلسفياً، لكن ذلك ليس ببعيد عن مناحي المعرفة بشموليتها أيضاً، ومدى ما تحرره من المعنى في التلقي المنتج، إذ إن الرهان مازال قائماً على القارئ بوصفه مستقبل القيمة الإبداعية ومنتجها، طالما أنه الحاضر أبداً في مستويات الإبداع المختلف.

عودة السجالات إيقاع حياة ثقافية أكثر تطلباً في فضاء التحدي والاستجابة، ومن شأنها أن تلون- لحظتنا- الثقافية بغير أفق دلالي يعود على المتلقي بالوقوف على أدوار الثقافة المختلفة، ومحصلتها الكلية هي في استنهاض الوعي أولاً، بعيداً عن محاولات (كيّه) واستلابه، فمسألة إنتاج الوعي في هذا السياق باتت مسألة شديدة الحساسية والتداخل، مسألة مركبة مازال الخطاب الثقافي يغذ الخطا في أثرها، من أجل صورة منشودة للثقافة لا تكترث بنصف كأسها الفارغ بقدر ما تنشد نصف الكأس الملآن، وعلى الأرجح أن من قيم تلك الحواريات، إن صحت التسمية، استنبات التفاؤل الإيجابي بجدوى أن يكون الإبداع وسيلة وغاية بآن معاً، ليجهر بالجوهر، وبماهية الوعي السوري في أكثر اللحظات انعطافاً، حاجة أولى للغة كي ترتقي، ومن ثم حاجة للروح، كي تظل أبداً مكتنزة بالنور والفيض الذي يعني فيما يعنيه الاستشراف، والقدرة على التجاوز، والإفساح في المجال (لعرابي الجمال) الذين يتنكبون خطاباً مضاداً للقبح والجهل، خطاب المعرفة الإنسانية التي لا تغادر ثلاثية الحق والخير والجمال.

أحمد علي هلال

Comments are closed.