دراساتصحيفة البعث

الخرائــط الافتراضيــة والحــروب الاســتباقية

عبد الرحمن غنيم – كاتب وباحث من فلسطين

يعد اللجوء إلى الخرائط الجغرافية أول البديهيات المرتبطة برسم الاستراتيجيات السياسية والعسكرية, ومهما كان حجم هذه الاستراتيجيات صغيراً أو كبيراً، فعلى هذه الخرائط تتحدّد جملة أمور في رسم الإستراتيجية، وأولها رصد الواقع القائم, وثانيها تحديد اتجاهات التطور المحتملة إذا ما تركت الأمور تسير بشكل طبيعي, وثالثها ما يمكن عمله للحيلولة دون وقوع تطورات معينة أو لتحقيق أهداف معينة، ويعد الأمر الثالث هو مضمون الإستراتيجية لأنه يتضمن تحديد الأهداف والسبل المؤدية إلى تحقيق تلك الأهداف.

إن هذا يعني منطقياً أن المكلفين بوضع الاستراتيجيات يتعاملون مع ثلاثة أنواع من الخرائط، وهي:

الأولى: الخرائط الواقعية التي تجسد الوضع القائم كما هو، والثانية: الخرائط الافتراضية التي تجسّد احتمالات التطور التي يمكن أن تطرأ على الخرائط الواقعية إذا تركت الأمور تسير بشكل تلقائي، والثالثة: الخرائط المتحكم بها التي تجسّد أهداف واضع الإستراتيجية الاعتراضية، وهي خرائط تبدأ افتراضية على الورق, لتتطوّر بعد ذلك إلى خرائط فعلية على الأرض، وتتجسّد أبعادها، مرحلة إثر أخرى إذا نجح المكلف بوضع هذه الخرائط بتنفيذ إستراتيجيته جزئياً أو كلياً.

ولعل أهم وأشهر مؤتمر استعماري رسم إستراتيجيته على أساس خريطة افتراضية، هو مؤتمر كامبل بنرمان الذي انعقد في الفترة /1905-1907/ ورسم خريطة جديدة آنذاك للوطن العربي، وكان حينها ما يزال وطناً واحداً, والذي يعرف أيضاً باسم “مؤتمر لندن”، وقد نظمه وعقده حزب المحافظين البريطاني بهدف تقديم دراسة وتوصيات عن المنطقة إلى حكومة بريطانيا التي كان يتولاها آنذاك حزب الأحرار.

وبوسعنا أن نلمس مدى جدّية ذلك المؤتمر ومدى خطورة الإستراتيجية التي وضعها من ملاحظة المعطيات التالية:

الأولى: لقد بدأ انعقاد المؤتمر عام 1905, واستمر في مناقشاته حتى العام 1907 ولا شك أن استغراق المؤتمر لكل هذا الزمن يدلل على مدى الجدية في جمع المعلومات ودراستها ومناقشتها.

الثانية: اشتركت في المؤتمر لجنة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والزراعة والبترول والجغرافيا والاقتصاد تمثل كل الإمبراطوريات الاستعمارية آنذاك، وكان من أعضائها البروفسور جيمس مؤلف كتاب “زوال الإمبراطورية الرومانية”, ولوي مادلين مؤلف كتاب “نشوء وزوال إمبراطورية نابليون”, والبروفسور ليسنر ولسنغ وغيرهم، ويدل هذا على أن الإستراتيجية التي رسمها المؤتمر قد وضعت على أسس علمية, وعلى أساس دراسة جادة تقصّى أصحابها كل الاحتمالات المستقبلية الممكنة.

الثالثة: ما تزال معظم فقرات التقرير النهائي سريّة حتى الآن, ولم يكشف الغطاء إلا عن شيء يسير من مضمونه, وذلك بخلاف السياسة المتبعة في كشف التقارير السرية بعد مرور خمسين سنة على وضعها.

الرابعة: ما يؤكد أن الإستراتيجية التي رسمها المؤتمر لا تمثل سياسة حزب بريطاني بعينها, ولا حتى سياسة بريطانيا وحدها, وإنما تمثل السياسة الاستعمارية الغربية ككل, هو مشاركة حشد من الخبراء من بلدان أوروبية شتى, وقيام المؤتمر بتسليم النتائج إلى حكومة حزب الأحرار رغم أن المؤتمر عقده حزب المحافظين المعارض.

إن ما كشف عنه الغطاء من تقرير المؤتمر يتعلق بالتوصيات العاجلة التي قدمها المؤتمر إلى رئيس الوزراء كامبل بنرمان, وفيها أكد المؤتمرون على المقولة التالية: “إن إقامة حاجز بشريّ قويّ وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوّة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة”.

ويتضح من هذا النص أن المشاركين في المؤتمر, قد فكروا بكيان يهودي صهيوني يمثل دور الحاجز البشري القويّ والغريب، ولا نعرف ما إذا كانوا قد نصّوا على ذلك صراحة في البنود السريّة التي لم يكشف النقاب عنها بعد، أم اكتفوا في ذلك الحين بالتلميح دون التصريح, لكننا نعرف بالمقابل حقيقة مؤكدة, هي أنهم قاموا بدراسة إمكانية إيجاد استيطان يهودي صهيوني في “سيناء” أو “مدين”, وقام ممثلون للاستعمار البريطاني بدراسة هذا الاحتمال ببعديه على الطبيعة, وكانت سيناء ومدين في ذلك الحين تحت سلطة مصر الواقعة تحت الاستعمار البريطاني, بينما كانت فلسطين لا تزال تابعة للسلطنة العثمانية.

كما يتضح من هذه التوصية أنه سواء بدأ تنفيذ الخطة في سيناء أو مدين، فإن احتمالات توسع هذا الكيان باتجاه فلسطين تظل قائماً، والمهم هو أن هدف المخطط هو إقامة كيان عازل يفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه، ويكون قريباً من قناة السويس.

وقد رأينا عملياً كيف لجأت بريطانيا وفرنسا إلى الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1956 ليشاركها في شن العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم مصر لشركة قناة السويس, وكأن ما حدث، كان عملياً تنفيذاً لأحد المعطيات الأساسية التي رسمت كسياسات في العقد الأول من القرن العشرين.

إن الأساس الذي بني عليه هذا المخطط يقوم على خريطة افتراضية وضعها المؤتمرون أمامهم، وتقوم هذه الخريطة الافتراضية على فرضيتين:

الأولى: وفق ما جاء في التقرير، وتقول: “إن الإمبراطوريات تتكوّن وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حد ما ثم تنحل رويداً ثم تزول”، وهنا افترض المؤتمرون أنه لا إمبراطورية العثمانيين باقية, ولا غيرها من الإمبراطوريات الاستعمارية، وبالتالي, فإن الوطن العربي لا بد وأن يخرج، إن عاجلاً أو آجلا من تحت الهيمنة الاستعمارية, ولا بدّ للعرب من أن يتحرروا ويتخلصوا من هذه الهيمنة.

والثانية: وفق ما جاء في التقرير أيضاً، وتقول: “إن هناك خطراً مهدّداً يكمن في البحر المتوسط بالذات باعتباره همزة الوصل بين الشرق والغرب ويعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بصفة خاصة شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللغة وكل مقومات التجمع والترابط, ذلك فضلاً عن نزعاته الثورية وثرواته الطبيعية الكبيرة، فماذا ستكون النتيجة لو نقلت هذه المنطقة الوسائل المدنية ومكتسبات الثورة الصناعية الأوروبية وانتشرت الثقافة والتعليم؟! وإذا حدث ذلك فسوف تحل حتماً الضربة القاضية بالإمبراطوريات القائمة”.

لو تمعنا قليلاً بهذا النص، لأدركنا أن المؤتمرين افترضوا أن الأمة العربية من المحيط إلى الخليج إذا ما تركت تعانق أحلامها في احتلال موقعها الطبيعي بين الأمم، فإنها ذاهبة إلى الانبعاث والتجدد والى تحقيق أهدافها في الحرية والوحدة والتقدم, أي أن الخبراء البريطانيين أو الاستعماريين, ومنذ أوائل القرن العشرين, لم يستنتجوا فقط ما يمكن أن تكون عليه أهداف العرب القومية كما حددها حزب البعث العربي الاشتراكي عند تأسيسه وكما تبنتها بقية الحركات القومية, ولكنهم افترضوا أن هذه الأهداف سوف تتحقق بكل تأكيد إذا ما تركت الأمور في الوطن العربي تتطوّر بشكل طبيعي, وأن عليهم أن يتبعوا كل السياسات والأساليب التي تحول دون ذلك.

من الواضح هنا أن راسمي الإستراتيجية الاستعمارية رأوا أن كل محاولاتهم لاعتراض سبيل هذا التطور ومنعه لن تكون مجدية ما لم يقوموا بإيجاد كيان غريب يشكل حاجزاً في قلب الوطن العربي وتحدياً مستمراً، وبالتأكيد, لم يفكروا بأن تكون مادة هذا الكيان الغريب من الدول الاستعمارية ذاتها وإلا لشرعوا في تنفيذ مخططهم بإيجاد نوع من الاستيطان الغربي الذي يأخذ طابعاً مسيحياً, وإنما فكروا فعلياً بتوطين اليهود الصهاينة, ليكون هؤلاء هم الجسد الغريب الذي يحقق الهدف الاستعماري، ولعلهم بذلك يضربون عصفورين بحجر, فيتخلصون من جزء من اليهود من جهة ويحولونهم إلى أداة في خدمة السياسة الاستعمارية وبحاجة دائمة لها من جهة ثانية.

من المؤكد أن الكيان الغريب لم يكن كل شيء في الخطة, وإنما كانت هناك أيضاً خطة كاملة متكاملة لوضع العوائق والعقبات والعراقيل أمام إمكانية نجاح العرب في تحقيق الأهداف القومية, وذلك من خلال خلق كيانات صغيرة متنافسة ومتصارعة أو تشكل على الأقل عقبة أمام الطموح التحرري والوحدوي.

لقد افترضوا مسبقاً إذن، أننا تحررنا واتحدنا وتقدمنا حضارياً, وافترضوا أن هذا التطور لن يكون فقط على حساب إمبراطورياتهم الاستعمارية, ولكنه يعني بناء حضارة عربية أو عربية إسلامية تكون هي الأقوى، وعلينا أن نتذكر الحقيقة القائلة بأن الغرب الاستعماري لم يكن حتى ذلك الحين قد تخلص من صراعاته داخل أوروبا نفسها, أو على المستعمرات في الخارج, وهي الصراعات التي عكست نفسها عملياً في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالتالي, فإن الغرب المنقسم على ذاته كان يشعر بهشاشة قوته رغم نفوذه الاستعماري, ويرى في فرضية انبعاث الحضارة العربية الإسلامية من جديد خطراً داهماً عليه.

الأمر الأهم في هذا المشهد أن الغرب بنى إستراتيجيته على أساس توقع ما هو آت, حتى ولو كان هذا الآتي في علم الغيب, وحتى لو كان تجسيده يواجه مصاعب كبيرة أو يحتاج إلى مدى زمني قصير أو متوسط المدى أو طويل, فراح يشن الحروب الاستباقية ويضع العراقيل والعقبات التي تحول دون هذا الذي هو آت.

وعلى أساس هذه الإستراتيجية كانت اتفاقية سايكس بيكو، مثلما كان وعد بلفور ومثلما كانت السياسة التي طبقها الانتداب البريطاني في فلسطين وأدت إلى قيام الكيان الصهيوني ليكون ترجمة عملية لمقررات مؤتمر كامبل بنرمان.

وعلى أساس هذه السياسة أيضاً يمكن أن نفسر خطوة فرنسا الاستعمارية في سلخ لواء اسكندرون لتسليمه لتركيا, ولا يمكننا في هذا السياق إلا أن نضع الدعم البريطاني لعبد العزيز آل سعود في إقامة مملكته, وكذلك تشكيل إمارات الخليج القبلية في إطار المخطط الرامي إلى عرقلة تحقيق الأهداف القومية، وكل هذه الكيانات, وكل ما يتمتع به حكامها من امتيازات, تندرج عملياً في نطاق العقبات.

وهنا من حقنا أن نتساءل عن السر الذي جعل بريطانيا تساند عبد العزيز آل سعود في مواجهة الشريف حسين في مكة وابن الرشيد في حائل والأدارسة في عسير, وهو سلوك يدل على ثقتها بأن مملكة آل سعود لن تشكل عقبة في مواجهة السياسة البريطانية بل ستمثل سيطرتها على أغلبية مساحة جزيرة العرب وضعاً يخدم الأهداف الاستعمارية!!. ولو أن بريطانيا قدّرت للحظة واحدة أن المملكة السعودية ستشكل خطراً على المصالح البريطانية لفضلت بقاء الجزيرة العربية موزعة بين ثلاث ممالك أو أكثر.

إن هذه السياسة الاستعمارية, ورغم أنها تبلورت في بريطانيا, إلا أنها صارت عملياً سياسة الغرب بشكل عام, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يستطيع أحد في هذا السياق أن يستبعد دور ما تسمّى بـ”القوة الخفية” في تعميم هذه السياسة التي باتت جزءاً لا يتجزأ من حسابات الحركة الصهيونية العالمية، مثلما هي جزء من حسابات الاستعمار.

وبالتالي نستطيع وفق ما سبق أن نفهم تلك المؤامرات التي واجهت التوجهات الثورية والوحدوية العربية, كما نفهم الخلفية الحقيقية للسياسات الاستعمارية التي واجهها العرب خلال القرن الماضي, ومن أبرز مظاهرها في أعقاب مرحلة الاستعمار التقليدي الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948, والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956, وعدوان حزيران عام 1967.

وحين استجمع العرب قواهم في أعقاب عدوان حزيران, وخاضوا حرب تشرين عام 1973 في أعقاب حرب الاستنزاف, هبّ الغرب الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة لمساندة الكيان الصهيوني ومحاولة العبث بالتضامن العربي, ورأينا الدور المدروس في التفتيت الاستراتيجي لصالح الصهاينة في سياسة الخطوة-خطوة التي اتبعها كيسنجر ودور الولايات المتحدة في اتفاقيات كامب دافيد وأوسلو ووادي عربة, وما رمت إليه من تقويض لجبهة المواجهة العربية.

ولنتذكر أنه في الوقت الذي كانت فيه الدبلوماسية الأمريكية تطبخ اتفاقيات كامب دافيد مع مصر لإخراجها من التآلف مع سورية بعد أن أثبت فعاليته في حرب تشرين التحريرية, جرى تنفيذ ذلك المخطط التآمري الذي استهدف سورية من خلال استهداف لبنان والمقاومة الفلسطينية بإشعال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975, مثلما استهدف سورية بالإرهاب الذي مارسته جماعة الإخوان المسلمين, وبُني هذا الاستهداف على خلفية المصالحة والتوفيق بين النظام العراقي آنذاك وبين شاه إيران للدفع باتجاه قيام النظام العراقي بشن حرب على سورية.

لكن هذا المخطط الذي كان قائماً على حسابات إقليمية يفترض فيها الغرب الاستعماري تحكمه باللعبة من خلال تبعية تركيا العضو في حلف الناتو له, ومن خلال إيران الشاه التي كانت خاضعة كليا للهيمنة الأمريكية, وكذلك ما باتت تعرف بعد ذلك بدول مجلس التعاون الخليجي, ما يعني أن استخدام نظام صدّام في استهداف سورية ستكون غايته استنزاف قوة القطرين سورية والعراق معاً في حرب بينهما, ثم الانقضاض على الفائز بينهما، وعلى الأقل فإن إشغال القطرين في أيّ نزاع أو توتر على أيّ مستوى كان سيخدم مصلحة الكيان الصهيوني في بناء قدراته العسكرية العدوانية ليتجاوز نقاط الضعف التي أظهرتها وقائع حرب تشرين, والتي جعلته يصف واقعه آنذاك بالمحدال أي التقصير.

وخلافاً للحسابات الاستعمارية في ذلك الحين, جاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران في شباط عام 1979 ليشكل بعداً جديداً في معادلات الصراع وحساباته لم يكن يخطر للغرب على بال، ودلل على أن الخرائط الافتراضية وترتيب الحروب الاستباقية على أساسها قد تأتي التطورات فتفاجئها وتخل بحساباتها، وبعد أن كانت إيران الشاه هي القوة الأهم التي يعتمد عليها الاستعمار في المنطقة جاء التحول الثوري في إيران ليفاجئ الغرب، وهذا ما دفع الاستعمار وأعوانه إلى إغواء نظام صدام للاشتباك مع الثورة الإسلامية في إيران قبل أن توطّد أقدامها, لعلها تتكرر بذلك التجربة التي واجهها مصدّق عام 1941.

إلا أن فشل هذه الحرب في تحقيق غايتها, واضطرار الكيان الصهيوني الذي قام بغزو بيروت عام 1982 بهدف إخراج المقاومة الفلسطينية منها وإخضاع لبنان للهيمنة الصهيونية إلى الانسحاب من بيروت لصالح القوات الأمريكية والفرنسية, ثم اضطرار هذه القوات للانسحاب تحت ضربات المقاومة اللبنانية, واستمرار المقاومة اللبنانية في ملاحقة الصهاينة في جنوب لبنان, كل ذلك أوجد واقعاً جديداً تثبت فيه إرادة المقاومة قدرتها على مواجهة الخطط الاستعمارية، وقد انقلبت الحرب بين النظام العراقي وإيران لصالح إيران, ما قاد إلى توقف هذه الحرب.

إن هذا التطور الأخير جعل القوى الاستعمارية, ومعها الصهيونية, تعيد حساباتها على أساس خريطة افتراضية جديدة يخشون ظهورها في المنطقة، وهذه الخريطة الافتراضية الجديدة هي ذات الخريطة التي حملها بنيامين نتنياهو مؤخراً إلى مؤتمر ميونخ  للأمن, والتي تعمّد فيها أن تكون مساحة إيران والعراق وسورية مطلية باللون الأسود, ليقول إن هذا هو الخطر الذي يتهدد أمن الكيان الصهيوني ووجوده.

وهذه الخريطة الافتراضية الجديدة تذكرنا بتلك التي بنيت على أساسها كل السياسات الاستعمارية منذ عام 1907 والفارق بين الخريطتين أن تلك القديمة كانت تشمل الوطن العربي كله, وربما أشارت أيضاً إلى محيطه أو عمقه الإسلامي في آسيا وإفريقيا وأوروبا, بينما الخريطة الجديدة أشارت إلى جزء من هذا الفضاء الرحب بعد أن عمل الاستعمار على عزل معظم أجزاء هذا الفضاء والتحكم بها بكل السبل والوسائل.

لعل هذه الخريطة الافتراضية تبلورت لدى العدو منذ لحظة انتصار الثورة الإسلامية عام 1979, وإعلان موقفها الرافض للاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية الأخرى, وقيامها بطرد السفير الصهيوني من طهران، ولعل أول هدف جرى استيحاؤه من رسم هذه الخريطة الافراضية في ذلك الحين كان العمل على الوقيعة بين العراق وإيران خشية أن تتحقق الخريطة عملياً على أرض الواقع.

ومن هنا أقحم من الأعراب من يحرّض صدام حسين على الاشتباك بالحرب مع إيران, زاعمين أن ذلك يتم لحماية البوابة الشرقية للوطن العربي وهم الذين لم يكترثوا يوماً باحتلال الصهاينة لقلب هذا الوطن.

وإذا كانت الحرب بين العراق وإيران قد انتهت بعد قرابة عقد من الزمن, فإن خوف أصحاب الخريطة الافتراضية من حصول تواصل وتكامل بين إيران والعراق وسورية لم يختف, ولعل هذا ما يفسر دفع صدام إلى احتلال الكويت ثم تجريد حملة “عاصفة الصحراء” ضده, وما أعقبها من فرض للحصار على العراق ووضعه منذ ذلك الحين وحتى الآن تحت الفصل السابع.

ولأن مجرد احتمال قيام علاقات طبيعية بين إيران والعراق بعد توقف الحرب بدا خطراً في ضوء رؤية العدو الصهيوني لمخاطر ارتصاف قوى جيوش عربية وإسلامية متجاورة وقوية وإمكانية أن تهب معاً في لحظة ما لمواجهة العدوان الصهيوني!.

ومن الطبيعي حين نشير إلى خريطة افتراضية للأفق المقاوم تبلورت في ثمانينيات القرن الماضي في أذهان الأعداء, وحكمت سلوك الأطراف الاستعمارية في تدبير الحروب الاستباقية منذ بداية التسعينيات, أن نضع في اعتبارنا أن هناك مساحات على خريطة الوطن العربي ومحيطه الإسلامي نظر إليها على أنها مصادر محتملة لإسناد ما بات يعرف اليوم بمحور المقاومة.

ولا شك أن ليبيا والجزائر وربما أيضاً السودان واليمن كان ينظر إليها كأطراف من المحتمل أن تساند هذا المحور، وهنا نفهم سرّ الهجمة الإرهابية على الجزائر, وسرّ استهداف وحدة السودان وإثارة أكثر من تمرّد مسلح فيه, ثم أسرار ما أسمي بـ”الربيع العربي” الذي بدأ من مصر وتونس ليسهم في الإجهاز على النظام السياسي في ليبيا, وعلى وحدة ليبيا, وكذلك تلك الظروف التي واجهها اليمن والتي جرى تصعيدها إلى حد شنّ العدوان عليه, وما واكب ذلك من محاولة تمزيق وحدة اليمن.

وهذا كله بالطبع إلى جانب استهداف وحدة العراق وأمنه واستهداف سورية ووحدتها وأمنها بأكبر حرب إرهابية شهدها تاريخ البشرية, ثم تلك المحاولات التي بذلت وتبذل لاستهداف إيران ودول أخرى بالإرهاب.

إن حجم المؤامرة الشيطانية, وتجلياتها خلال السنوات الأخيرة, يؤكد بشكل لا لبس فيه أن غايتها العملية لم تقتصر على تفادي المخاطر التي تشي بها تلك الخرائط الافتراضية التي رسمها مدبّرو تلك المؤامرة الكبرى وعملوا على قاعدة مواجهتها بحروب استباقية, إذ أن ما واجهناه عملياً كان ولا يزال قائماً على محاولة فرض خريطة بديلة جديدة للمنطقة.

لكن هذه الخريطة الجديدة البديلة لا تعني بقاء المنطقة على تكوينها الحالي مع اللعب بالسياسات والتحالفات، وإنما على أساس تمزيق هذا التكوين، ومن الواضح تماماً في ضوء حجم الهجوم والأدوات المستثمرة فيه أن المخطط الشيطاني الذي جرى تنفيذه كان يرمي أولاً, وقبل كل شيء, إلى تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل، وهذا يفسّر استهداف مصر بالإرهاب بكل مكوناته الإخوانية منها والداعشية رغم كون مصر مكبّلة ليس فقط بقيود كامب ديفيد ولكن أيضاً بقيود أخرى عمل الاستعمار وعملاؤه على إحكامها من حولها.

كما يفسّر تعدّد وأحجام التنظيمات الإرهابية التي جرى تجنيدها لاستهداف سورية والتناقضات القائمة بين هذه التنظيمات ومن يتحكم بها من قبل القوى التي تقف وراءها مثل تركيا والسعودية وقطر عدا عن المشغلين الأميركيين والإسرائيليين والأوروبيين من حسابات.

كما يفسّر السياسات الأمريكية التي تحاول واشنطن من خلالها الاستعصاء في أجزاء من الأراضي السورية مركزة بشكل خاص على المنطقة الشرقية الواقعة بين سورية والعراق, بينما تلعب تركيا الدور المطلوب منها في الشمال.

ويفسر استهداف العراق نفسه من قبل داعش, ثم من قبل من يطلقون على أنفسهم الآن “الرايات البيضاء”, يضاف إلى ذلك الإصرار الأميركي على إبقاء تواجد القوات الأمريكية في العراق لإكمال حلقة العزل بين سورية والعراق بالتكامل بين القوات الأمريكية المتواجدة على طرفي الحدود، ولنضف إلى كل ما سبق المحاولة الأمريكية المخادعة للعب بالورقة الكردية.

إن كل هذه السلوكيات الأمريكية وسلوكيات من يدورون في فلكها هي في التحليل النهائي محاولة لفرض خرائط بديلة لتلك الخريطة الافتراضية التي يعبّرون بها عن خوفهم من تبلورها في نهاية الصراع. فالعدو الصهيوني يرى أن تبلور خريطة افتراضية لمحور المقاومة تضمّ إيران والعراق وسورية يمثل خطراً داهماً ليس فقط على أطماعه التوسعية, ولكن أيضاً على وجوده العدواني، ولذلك يسخر كل الإمكانيات التي يمكن له وللطاغوت الأميركي تسخيرها للحيلولة دون تبلور هذه الخريطة الافتراضية لتتحوّل إلى خريطة فعلية.

إنها إذأً, ومن جديد, سياسة رسم الاستراتيجيات على أساس الخرائط الافتراضية، ولنلاحظ أنهم يتصرفون على هذا النحو رغم الواقع القائل بأن العراق لا زال خاضعاً لقرارات دولية تجعله تحت رحمة الفصل السابع, وأن الأمريكيين لا زالوا متواجدين على الأراضي العراقية, وأن أمريكا تحاول تكبيل حرية العراق في شراء الأسلحة من أطراف أخرى مثل روسيا، وأنه على الرغم من هذه القيود, ووجود إمكانات العبث الامبريالي, إلا أن الصهاينة يخشون إرادة المقاومة في العراق وفصائلها التي أثبتت فاعليتها في الصراع, ومن الدور الذي أدته هذه المقاومة سواء في مواجهة الاحتلال الأميركي أو في القضاء على داعش. وهذا يفسر قلقها من تواصل الطريق البري بين إيران وسورية عبر العراق أكثر ما يؤرق الصهاينة, فيعملون مع الأمريكيين على الحيلولة دونه.

لكن هل تتوقف حربهم الاستباقية عند هذا الجانب من جوانب الصراع؟. من الواضح تماماً أنهم بذلوا كل ما يستطيعون لتمزيق وحدة سورية, ومن الواضح تماماً أيضاً أنهم يبذلون كل ما يستطيعون لاستهداف أمن ووحدة إيران، ومن الواضح أن هذا أيضاً يتم في إطار أوسع وأشمل للاستهداف يتعرض له الوطن العربي في كل أقطاره مثلما تتعرض له العديد من الدول الإسلامية الواقعة بجوار الوطن العربي.