زمن درويش والحنين لزمن القصيدة
قالوا ولد شاعر فامتدت حروف القصيدة لتطاول حيوات كثيفة الإيقاع باسقة المعنى، فمن أين يأتي الشعراء ليهبوا الحياة أكثر من حياة، وهم العابرون أزمنتهم وأمكنتهم وخطاباتهم، لكنهم المقيمون في المعنى المؤتلف/ المختلف، ليصح القول إن زمن الشاعر محمود درويش، هو زمن قصيدة مفتوحة لا تنتهِ، ليظل الكلام عن القصيدة كترجمان الأشواق، إذ هي من تواسي ذلك القلق النبيل وهي من تذهب إلى تأثيث معنى الوطن ومعنى الإنسان، في أكثر اللحظات كخط أولي من خطوط الدفاع عن الجمال، فكم خرجت أجيال من معطفه، تماثلت واختلفت، لتذهب أبعد من قوس توتر ذات قصيدة أطلت على ما تريد، أطلت من علٍ، وكأنها ترقب شغف الزنزلخت لينمو بين أصابع عاشقة ويقيس خطوته بالنبض إلى القلب، تلك مسافاته القصوى، ربما ليخيط غير جرح في الذاكرة، ما جدوى الشعر هنا حينما يصبح هو الشاعر بذاته، مخلص كان أم بُشرى لأرواح طارت كيمامات حذرة في سماوات الحروف، وضرجت بفتنتها الدروب التي ستظل أجمل من البيوت، والأحلام بوصفها حيوات متقطعة قليلة لكنها الإيقاع ليومياتنا النازفة، والتي لا تشبه سوى ذاتها، يوميات الأمل وجنياته الساحرة.
كان قلب درويش حجل يسعى لتوأمته مع قلب دمشق، حينما صدح ذات يوم بحنينه الأعلى، وظلت دمشق قصيدته الكبرى ففي جيناتها نما طفل الأمل، وصار كثيفاً كأشجار نمت على مهل اللحن وموسقة مقاماته، صار درويش جيلاً من العاشقين اللائذين بأسفارهم، الحالمين بمستقبل الشعر، ذلك المخلص الأبدي، فهو مشيئة أعمار جدية ظلت تكتبها أقلام الرؤية، حاذقة بما يكفي تدفق الأنهار وثبات الجبال.
ذات قصيدة أطل درويش على دمشق ولم يغمض عينيه البتة، ظلتا ترقبان كيف أزهر الياسمين من حبر ودم، من دم الشهيد وحبر الإبداع، ومشى درويش على الغيم حافياً، خلع نعلي الرتابة، ويمم شطر الأرجوان، وهو من رآه كطيف عشاق دمشق وحارسي لياليها المقمرة، وهو من رآه آية توسطت كتاب الأرض، كان قلبه يفيض بالنبض ليُلهم الزنابق فتشرع في الغناء، وأصابعه النحيلة حدَّ الشفافية تربت على البيوت هنا وهناك تنسج لها ما تيسر من بياض حتى تتم حضورها كقطع من القلوب.
زمن درويش هو زمن القصيدة المبرأة من الخواتيم الضاجة باحتدام الأزمنة والمصائر، لكنه وهو –الطليق- بما رآه، وهو العابر إليه ظل يمسك بوابات دمشق كلها ليفتح بوابات قلبه ويدخل أرض الكلام عاشقاً.
قالوا ولد شاعر، فقالت الجهات هو كالعطر يصهل في القصائد، فتعلو أقمارها ويهفو قلب الصباح إلى النهارات العالية، ويصير هو الكلمات التي لا تُحدُّ ولا تُستنفد من ذاكرة الصحو، فكم من وشاية بارعة السبك وشى الشاعر فيها، ليُصَّير أزمنته خارج الأمكنة، وهو من يعدُّها بالشغف وحده، وبالاحتمالات وأكملها احتمال الجمال، ليكسر قبحاً تمادى، وليقيم في الأرض أعراس الضوء والعطر والمسرات.
كيف نقرأ زمناً بعينه تعدد لأزمنة، بل كيف نقرأ الشعر صافٍ سوى من دهشته الفطرية والمركبة بآن معاً، إذاً سنعود إلى أعالي الغناء، وكيف ظلت الروح تُنشد حضورها –خارج موت قسري- لا يتراءى للغياب سوى بظلاله المضيئة، فزمن الشعر صار أزمنة لشعريات القلوب المعلقة، بفواصل حنينها الفادح لزمن البراءة حين لا ينكسر دفء الحلم، وجدوى الشعر في الأزمنة المختلفة، وكم أخذنا صاحب «الجدارية» منّا لنتأمل طقس الشعر وكيف يمسح بالغيوم جباهنا المتعبة، ويمسح بالضوء قلوبنا المنهكة.. ولد شاعر إذن ظل الشعر حارس الوجد ليصير بذاته وجداً سائلاً كعطر لا يُستنفد، عطر أبجدية الكلام، وما الحنين هنا سوى العود الأبدي للأنا بوصفها العالم.
أحمد علي هلال