الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

من دورات الزمن

عبد الكريم النّاعم

جلس يغمره صمت عميق، بعد السلام مباشرة، حتى كأنّه قد انفصل عنّي، رفعتُ صوتي لأعيده إليّ، قلت: “وحّدوه،.. إمّا أن تأخذنا معك، وإمّا أن تكون معنا”.    نفخ لِيُخرج الضيق الذي في صدره، وقال: “نحن حين نكون مع مَن نحبّ، فإنّنا نأنس حتى بالصمت، لأنّه ليس صمتا بالمعنى المُتداول، بل هو تواصل، وتخمين جوّاني، وأنس لا يحتاج للبوح”.

قلت: “الله.. الله.. ماذا تركتَ للشعر”؟!

قال: “هل تريد أن تُديرها مسخرة”؟!

قلت: “معاذ الله، ولكنّني فعلا أقول إنّ المناطق التي ذكرتَها، منها ينهل المُبدعون كلّ بحسب إبداعه”.

قال: “طوال الطريق وأنا أفكّر فيما وصلْنا إليه من خراب في النفوس، وفوق الأرض، وأعتقد أنّ خراب النفوس، منذ أنْ دبّ، وفقدْنا معنى كلمة العيب، الذي ربّما شكّل عاصما في بعض الأحيان.. منذ ذلك الوقت .. بدأت تتسرّب من تلك الشقوق كلّ الأخطار التي حضّروا لها، لأنّ المجتمع حين يتخلّى عن نواظمه الأخلاقيّة الوضيئة، فإنّه يدعو بشكل غير مباشر العدوّ للاستفادة من هذه الثغرات، يا رجل، ما تكاد تجلس في مجلس إلاّ ويتحدّث النّاس عن زعرَنْة فلان، وإثراء علتان، وسيارات هفتان، وهو الذي لم يكن يجد ما يأكل إلاّ بصعوبة، والأنكى من ذلك أنّك قلّما تحتاج إلى أمر، هو لك قانونا، إلاّ ويُقال لك “ادفع.. تحصلْ”، ما الذي أصابنا؟! أتعرف؟ أكاد أفقد ثقتي بالناس، وهذا دمار روحيّ فظيع”.

قلت: “معك حقّ، هذا ما وصلْنا إليه، تحضرني في هذا السّياق، كلمة لأمير المؤمنين والبلاغة الإمام عليّ ع يقول فيها: “إذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهله، ثمّ أساء رجلٌ الظنّ برجل، لم تظهر منه حوْبة، أو إساءة، فقد ظَلَم، وإذا استولى الفساد على الزّمان ثمّ أحسنَ رجل الظنّ برجل فقد غُرِّر”،- أي خُدِع-يبدو أنّنا يا صاحبي في دورة من دورات استيلاء الفساد، ولكنْ لابدّ من التنبّه إلى أنّ الإمام أشار إلى وجود أزمنة يستولي فيها الصلاح، وهذه الأزمنة لا يصنعها زمن الدقائق والساعات المجرّدة، بل يصل إليها الإنسان، والوصول إليها ليس سهلا، ولكنّه ليس مستحيلا، لننظرْ في مضمون الرسالات السماويّة، وما كافح من أجله المصلحون الاجتماعيّون، وكبار المفكّرين الإنسانيّين سنجد أنهم جاؤوا في دورات استيلاء الفساد، فلم ييأسوا، ولم يجبنوا، ولم يتهيّبوا من حجم وكثافة ما يواجههم فتصدّوا له بعزيمة المؤمنين، وواجهوه بهمّة الصابرين، فكانت تلك النّقلات النّوعيّة، في المجتمع، وفي إضافة الأفكار النّورانيّة، يبدو يا صديقي أنّنا مضطرّون إلى تكرار بعض الأفكار التي قلناها، لا لقيمتنا نحن قائليها، بل لجدارة الفكرة، ومنها قولنا إنّ أمّة، أو شعبا، في هذا الزمن البالغ الرداءة، يتمكّن من مواجهة مؤامرة كونيّة رُصِد لها من الأموال، وحُشِد ضدّها من الرجال ما لم يُعرف من قبْل.. أمّة كهذه قادرة على الخروج ممّا حيك لها، ومّما أصابها من انتشار عفن في الداخل.

aaalnaem@gmail.com