أخبارصحيفة البعث

كيف حقق الرئيس حلم ابن خلدون!!..

د. مهدي دخل الله

لأول مرة في التجربة السياسية المعاصرة يلقي رئيسٌ بياناً سياسياً مهماً في وقت الحرب بهذا الأسلوب الذي أبدعه الرئيس الأسد في الغوطة. إنه حدث فريد من نوعه بكل المقاييس… وهو لا شك يثير نهم الباحث في علم النفس السياسي والاجتماعي، ناهيك عن الباحث في علم السياسة وفنها..

كان ابن خلدون قد وضع عنواناً للفصل الثامن والعشرين من مقدمته يقول ( في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة المُلْك)، ولو استخدمنا المصطلحات الحديثة لوجدنا أن العنوان يشير الى جهل العرب بفن السلطة أو «السلطان» حسب تعبير برتراند راسل..

التجربة عندنا تؤكد أن الرئيس الأسد ربما كان الرئيس العربي الأول الذي يجيد فن السلطة، بمعنى أنه يجيد تحويل السلطة الجبرية الى سلطة إقناعية…

أولاً – «بيان الغوطة» المهم جداً لم يكن مكتوباً مسبقاً بلغة منمقة ومدروسة للتأثير على المتلقي، وإنما كان «شفوياً» ومباشراً دون «صف جمل» وتحسينات بلاغية وشكلية أو اختيار «مصطلحات». كان حديث السوري للسوري بشكل تلقائي مع كل مايحمله ذلك من دفء وحميمية..

ولا شك في أن الخطاب السياسي المعاصر يطمح إلى الوصول إلى هذه العلاقة بين «السلطة» و «الشعب»، حيث تجتاز هذه العلاقة مفهوم «السلطة تمثل الشعب» الى مفهوم «السلطة هي الشعب نفسه».. والرئيس يتحدث للسوريين كفرد منهم دون أية حواجز..

في هذه الحالة يتحول «التمثيل» (representation) الى «تماثل» (assimilation) حسب مصطلحات ابن خلدون. وكان هذا الفيلسوف العربي المنسي يؤكد أن الرابطة الحقيقية بين الناس هي رابطة «التماثل» التي تؤدي إلى «الألفة» .(sociability) بما يلغي في النفس الحدود بين «الأنا» و «الآخر»..

والألفة الاجتماعية في إلغائها الحدود بين أفراد المجتمع تتحول الى «رابط سحري» يحقق الحلم القديم للبشرية الذي هو تحويل «السلطة الجبرية» إلى «سلطة إقناعية» حسب تعبير جالبريت في بحثه الشهير بعنوان ( أناتوميا السلطة). البعد «الإقناعي» يلغي «البعد الجبري» في مفهوم السلطة حيث يتقبل الناس «إرادة السلطة» طواعية كما هي العلاقة بين الأب والأم مع أبنائهما.. وقد كانت عقدة تحويل التمثيل الشعبي الى تماثل من أهم العقد التي لم يستطع حلها الفكر السياسي الأوروبي بما في ذلك محاولات جان جاك روسو حول العقد الاجتماعي..

ثانياً – المضمون الثاني لتمتين الألفة في «بيان الرئيس» هو إلقاؤه – البيان – أثناء قيادته سيارة عادية، بل متواضعة بالمقارنة بسيارات «المسؤولين» ذوي «السلطة الجبرية». هناك ثلاثة عناصر للألفة واضحة في اختيار «مكان إلقاء البيان»:
1- سيارة عادية وفي ذلك «تماثل» مع الإنسان السوري العادي. 2- لم تكن السيارة مفيمة أي لايوجد حاجز بين الرئيس وشعبه. 3- أن الرئيس كان يقود السيارة بنفسه كما يفعل المواطن العادي.

ثالثاً – المضمون الثالث أن الألفة تحتاج إلى شجاعة وثقة بالناس. تساءل سيادته بلسان مواطن عادي مرة: «كيف سيحميني هذا المسؤول مادام هو خائفاً ويعبر عن خوفه بالمواكب المسلحة وتفييم السيارة ؟»، أضيف هنا: وغير ذلك من الأمور المقززة كعدم احترام قوانين المرور…

رابعاً : المضمون الرابع هو لقاء الرئيس مع الجنود العاديين. «التماثل» هنا يتخطى الرتب العسكرية وأصول «السلك» وغير ذلك من إجراءات. اللقاء هو من «النوع الثالث» أي هو لقاء مباشر دون أي حواجز..

mahdidakhlala@gmail.com