اقتصادصحيفة البعث

لا لرأسمالية الدولة ولا لأفندية المنظمات

 

 

الاستثمار إجراء اقتصادي واجب الوجود في اقتصاد الدولة، انسجاماً مع نهج التعددية الاقتصادية الذي سبق وأن تمّ اعتماده في قطرنا، وقد صدرت العديد من التشريعات المتعلقة بهذا الشأن، على أن يكون الاستثمار استثناءً، حيث تتطلب الضرورات الاقتصادية الوطنية ذلك، لا أن يصبح قاعدة حيث تتطلبه مصالح المستثمرين ورغبات المروجين لهم، وبالتالي من الخطأ الاقتصادي الفادح أن يسعى بعض المسؤولين السياسيين والاقتصاديين، لتفسير نهج الاستثمار وتطبيقه، باتجاه أن يطغى في جميع القطاعات الاقتصادية، لما لذلك من مخاطر كبرى، وخاصة بعد أن لمسنا مخاطر تفسيرهم لنهج اقتصاد السوق الاجتماعي على أنه اقتصاد السوق، وما زلنا نتوجع من سلبيات تفسيرهم وممارساتهم التي تجلت بتدني حجم منتجاتنا في الكثير من القطاعات، لصالح استقدام الكثير من منتجات الدول الأخرى، وما تلا ذلك من ازدياد حجم البطالة والهجرة، وما ترتب على ذلك من منغصات اجتماعية، استغلها مضللو الشعب.
لا خلاف على ضرورات تنشيط الاستثمار في العديد من المجالات، شريطة أن يكون بالدرجة الأولى، نشاطاً محدثاً ومضافاً لما هو موجود من أنشطة، لا أن يكون من خلال سحب البساط من تحت القطاع العام أو القطاع التعاوني أو القطاع المشترك، والحلول مكان هذه القطاعات في استثمار الأنشطة التي تقوم بها سابقاً أو المتوجبة عليها حالياً ومستقبلاً، فهذه القطاعات أساسية في الاقتصاد الوطني، ولها وجودها منذ عقود من السنين، وحضورها الرائد والفاعل حاجة وطنية، وقد تبيّن ذلك بجلاء خلال السنوات السبع العجاف.
لكن واقع الحال ومنذ سنوات خلت وبتتابع، يظهر أن العديد من أصحاب القرار السياسي والاقتصادي يعمدون باتجاه توسيع فضاءات الاستثمار الخاص على حساب القطاع العام، عبر طرح العديد من المؤسسات المتوقفة أو المتعثرة للاستثمار، وقد تقاعسوا عمداً وأظهروا فشلهم قصداً في إصلاحها المنشود، كي يؤكدوا أنه لا مفر من وضعها في ملف الاستثمار الخاص، بحجة أن العائدية ستكون أعلى، متجاهلين أن ضعف الجهة العامة في تحقيق العائدية الأعلى يشكل إدانة كبرى لها، فعجز أية جهة عامة عن تشغيل منشآتها وعقاراتها ذاتياً ولا تعالج فشلها -وتلجأ لتنظيم عقود استثمارها مع القطاع الخاص- يشكل مظهراً من مظاهر فسادها، فالفشل الإنتاجي مرتبط –بل مسبوق- بالفشل الإداري، وخاصة عندما تكون المنشأة قديمة ومن صلب اختصاص الجهة، أليس من المستغرب أن تفشل العديد من المباقر العامة في بلدنا الزراعي الذي تخرج مدارسه ومعاهده وكلياته الزراعية والبيطرية آلاف الخريجين سنوياً؟!.
الملفت للانتباه أن أولي الأمر قرنوا عجزهم عن إصلاح المنشآت المتعثرة والمتوقفة، بقصورهم عن إحداث الجديد المطلوب، وما تمّ إحداثه أقل من الطموح والممكن، بل يؤسسون لأن يكون معظم الجديد بين يدي المستثمرين، والغريب أن مساعي الاتجاه إلى الاستثمار لا تقتصر على الجهات العامة في الدولة بل إن بعض المنظمات تسلك المنحى نفسه، بما في ذلك منظمة اتحاد الفلاحين، فاتحاد فلاحي طرطوس تخلى مؤخراً عن محطة وقود ومعصرة زيتون في موقعين مهمّين لصالح مستثمرين تم التعاقد معهما، وسبق أن أغلق عدة مخازن استهلاكية تعاونية تابعة للجمعيات الفلاحية، سبق لها أن لعبت دوراً كبيراً في تأمين المواد الاستهلاكية لقطاعها بأرخص الأسعار، ويسعى الآن لتقزيم وإغلاق المخزن الوحيد النموذجي المتبقي، بدلاً من توسيعه.
حبذا لو يتمعن أولي الأمر المعنيون في الشأن الاقتصادي العام، ويدركون أن اقتصاد السوق الاجتماعي ليس هو اقتصاد السوق، وأن الاستثمار لا يعني إضعاف دور القطاع العام والمنظمات، وأن التشاركية المطروحة أولى بأن تكون بين الجهات العامة نفسها، وبين المنظمات نفسها، وبين القطاع العام والمنظمات، قبل أن تكون مع القطاع الخاص، مع التأكيد على وجوب وجودها مع القطاع الخاص بين زمان ومكان، شريطة أن تكون الجهة العامة أو المنظمة هي الأكثر حضوراً في هذه التشاركية، وألا يغيب عن بال المسؤول والمواطن أنه ليس من حق الجهات العامة أن تؤجر أملاكها وتمارس دور الرأسمالي، وليس من حق المنظمات على اختلاف أنواعها ومسمياتها وثقلها السياسي والاقتصادي –وخاصة منظمة اتحاد الفلاحين – أن تؤجر أملاكها، وتمارس دور الأفندي والإقطاعي والآغا، فالجهات العامة والمنظمات معنية بأن تكون النموذج الذي يُحتذى في الإدارة والإنتاج، وكل ما يخصّ الشأن الوطني الاقتصادي والاجتماعي.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية