ثقافةصحيفة البعث

“عندما سُرقت المكتبة” تراجيدية الإنسانية وخيبتها

 

“عندما سرقت المكتبة”، العنوان الذي يصلح كاسم لفيلم سينمائي أو عمل مسرحي ربما، هو ما حمله الكتاب الصادر عن دار التنوير-بيروت، تحت ثقل وقع العنوان نفسه، والذي يوحي أيضا بأجواء درامية تراجيدية، ليست بالبعيدة عما حصل بتلك المكتبة، والحادثة الشهيرة التي جرت لها ولأصحابها، عندما فتحوا قلوبهم وبيوتهم لمن لم يقدّر هذا، وما أكثرهم!.

الكتاب سميك الصفحات وكثيرها، يقع بين دفتيه ما يربو على 1000 صفحة، توثق بالفهرس وبالصور وشهادات العديد من المقربين والخبراء، لموجودات مكتبة الروائي “عبد الرحمن منيف”-1933-2004، المكتبة التي تم السطو عليها منذ ثلاثة أعوام تقريبا، قام كل من السادة “حسن ياغي، سعاد قوادري، عامر بدر حسون، فرانك ميرمييه، نادية صالح، يحيى حقي” بكتابة العديد من أبوابه، والتي توضح جانبا هاما من حكاية سرقة مكتبة “منيف” التي كانت إرثا إبداعيا عاما، يحوي من الكنوز الأدبية والفكرية والفلسفية والفنية والاقتصادية وغيرها مالا يتخيله عقل، فالمكتبة التي حملها منيف معه كواحد من أبنائه في حله وترحاله، طاب لها المقام أخيرا في سورية، وكما هو معروف، فإن وجود مكتبة في البيت، يُعتنى بها وبزيادة ما فيها من عناوين هامة وضرورية، يعني الميل للاستقرار، فكيف إن كانت مكتبة، بحجم مكتبة عبد الرحمن منيف، التي كان يتم تجهيزها لتكون مكتبة وطنية، مفتوحة للجميع، إلا أن يد حيف مُدت إليها، وسرقت ما سرقته منها، وخربت ما خربت أيضا، بعلم أو دونه ربما، أنهم بما يفعلون، إنما يسرقون ويخربون، إرثا إبداعيا لكل الناس، كحال الروائي الذي كانه، هو وتجربته الأدبية الطويلة، لكل الناس.
إلا أن مهمة كهذه ليست باليسيرة حتى على من عاشر “منيف” طوال حياته، كزوجته السيدة “سعاد قوادري” التي قررت أنها لن تهدر دم تلك الرفوف الخشبية التي تتنفس، بعد أن حملت عوالم سحرية وواقعية واقتصادية وأدبية وفلسفية، فالمكتبة لم تكن بالنسبة لصاحبها، شريكا فقط وعاكسا لحياته كمثقف، بل كانت مركز إنتاج مهم وأرشيفا للعمل، ومحطات اقتباس، عندما كرس الكاتب العديد من كتابته لعناوين وموضوعات احتوتها مكتبته، ومن الطبيعي أن تكون هذه الأجواء التي عاشت “قوادري” معظم جوانبها، شكلت عامل ضغط قوي عليها وهي تعمل على إعادة فهرسة موجودات المكتبة التي كانت “ضرتها” بكل ما للكلمة من معنى، لكنها تلك الضرة المحرضة على جعلها أكثر إصرارا، لحفظ هذا التاريخ وإعادة الألق إلى روحه.
الكتاب لا يناقش أعمال “عبد الرحمن” نقديا، ولا يذهب ليحاور من شخصياته التي خلقها من لحم ودم على الورق، بل هو عمل دؤوب وطويل، لتجميع ما يمكن تجميعه، من الكتب والمخطوطات النادرة التي سرقت، ليكون بمثابة فهرس لمكتبة صاحب “مدن الملح” التي زاد عدد موجوداتها من كتب ومخطوطات نادرة ما زاد على 15 ألف كتاب، وقد تم التوثيق بالاعتماد على 407 صور فوتوغرافية التقطت لرفوف المكتبة في منزله، بدأت عام 2015 وانتهت عملية التوثيق بعد عامين 2017، وهذه الصور توفر رقم الكتاب حسب ترتيبه في الصورة، نوع المنشورة، عنوانها، اسم المؤلف، الموضوع العام، اللغة الأصلية، اللغة المترجم إليها، مكان النشر وتاريخه، تاريخ تأسيس دار النشر، وقد خرجت عملية التوثيق بعد انتهائها بالأرقام التالية: بلغ عدد المنشورات الموجودة في المكتبة حتى تاريخ تصويرها 9191، منها 1415 منشورة لم يتم التعرف على عناوينها، وأيضا تم إحصاء العديد من المواضيع بتنوعها وفرادتها، تلك التي تضمنتها المكتبة منها 3015 كتابا في الأدب والنقد الأدبي، 1665 في السياسة، 1465 في الفن والثقافة، 1393 في الاقتصاد والتاريخ والعلوم ومتفرقات، وتم ملاحظة أن أكثر المنشورات التي تضمنتها خشبات “منيف” صدرت في عامي 1979 و1980، وتحصي 419 منشورة، أما الفترة الممتدة بين عامي 1968 و2003، فيزيد عدد المنشورات الصادرة فيها، عن مئة كتاب فيها سنويا.

شهادات
“سعاد قوادري”رفيقة درب الجلجلة الطويل هذا تحكي عن بعض من طباع الكاتب وعلاقته بمكتبته، فتقول:
“ما كان يميز عبد الرحمن، هي طريقته الخاصة بقراءة الكتب، لقد كان يتناول كتابا يختاره بناء على اسم الكاتب ونتاجه، أو الموضوع وأهميته بالنسبة له وللآخرين” وتتابع قوادري في شهادتها: “القراءة ليست للتسلية وتمضية الوقت، إنما هي حالة جادة من التيقظ والتعلم والمعرفة؛ إضافة لدهشة منيف وتقديره لإمكانيات الكاتب؛ فكثيرا ما كان يتوقف عن القراءة وفي يده الكتاب معجبا بأسلوبه فيما ذهب إليه، ثم يعود مسرعا للاستمرار بشغف ونهم، ومن أصعب الأمور أن أتكلم عن المكتبة الآن التي فقدت أهليتها وأصبحت كتبا وسخة وممزقة الكيان والأغلفة، بعد أن كنت أتكلم وأعيش محتوياتها بمتعة فريدة، لكنها الآن تحولت إلى ظل ثقيل ومرعب، وأنا أتجول بين رفوفها بحزن شديد”.
ويعتبر”عامر بدر حسون” أن” الكثير من الكتب التي تدخلت السياسة عموما بتصديرها لتصدير أفكار وتمريرها للقارئ العربي إن كان في الرواية أو الفنون والعلوم عموما، كانت كتبا تزيد من حجم الصراخ في حياتنا، ولكنها قللت أو ألغت التفكير عند قارئها، هذا ليس سائدا في ثقافتنا أن المؤلف والكتاب والمطبوعة، يعيشون على حساب القارئ لا على حساب الدولة، وهذا النوع من العيش هو ما يسمح لهم بأن يكونوا أحراراً في أفكارهم “، وهذا ما كان من حياة “منيف” الذي كان كتابه، على نفقة القارئ، المنتظر بنهم، لما سيقدمه هذا الرجل سلفا، خصوصا وأن تجربته الأدبية والفكرية عموما، شكلتها عوالم عاش تفاصيلها لحظة بلحظة، “منيف” الذي عاصر أهم تحولات المنطقة العربية الجغرافية والسياسية وما يتبعه من تغير عادة في نوع الأفكار السائدة، وفي الثقافة التي توجه البوصلة، كان منيف من القلة الذين رصدوا بحس وجداني متنوع، تلك التغيرات، منعكسا هذا وجليا في نتاجه.
“عندما سرقت المكتبة” يحكي دون أن يقول قصة مؤثرة ومحزنة لكتب ومخطوطات نادرة، وبين سطوره تحيا معان عن الحياة التي مرت على رفوف تلك المكتبة وأصحابها، وهم يمدونها بما يجعلها كل يوم تتنفس حروفا جديدة، ومن الجيد رغم سوء ما حصل، أن يتوفر هذا الكتاب بما فيه من معلومات وفهرسا كبيرا لموجودات المكتبة التي كانت يوما صديقة أليفة لكل أفراد البيت، فنحن في زمن زيف، يتغير فيه كل شيء بين لحظة وأخرى.
تمّام علي بركات