سيد قطب.. والتصنيف الثنائي بدل التصنيف الثلاثي
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
يعتبر سيد قطب المرجعية الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات التي تصنف نفسها على أنها “سلفية جهادية” ومن ضمنها تنظيم القاعدة، وهذا يعني أنه لفهم أو لمناقشة الأفكار التي تستند إليها هذه الجماعات، فإن الرجوع إلى المصدر المتمثل بآراء سيد قطب يكون أمراً لا بد منه، كما يشكل أقصر الطرق لمعرفة المفاهيم التي تحكم سلوك هذه الجماعات.
ينطلق سيد قطب في كتابه “معالم في الطريق” من مقولة أن العالم كله اليوم يعيش في جاهلية، وقد قسّم الأنظمة الاجتماعية إلى فئتين: نظام الإسلام ونظام الجاهلية، وقال: إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور، فإما إسلام وإما جاهلية، وليس هناك وضعٌ آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية يقبله الإسلام ويرضاه، وإننا اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، حتى أن الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيراً إسلامياً هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!.
للوهلة الأولى يبدو للمرء، وهو يستعرض هذه الأفكار، أن سيّد قطب يريد أن يعيدنا إلى النبع الصافي للإسلام متمثلاً في زمن البعثة المحمدية والخلفاء الراشدين، وأنه يريد أن يخلصنا من “أدران” الرحلة الطويلة للإسلام منذ ذلك الزمن وحتى الآن بمنطق نقدي، لكن قليلاً من التفكير والتأمل من شأنه أن يثير أمام منطق سيد قطب في تحليله الكثير من المشكلات.
تتمثل أول هذه المشكلات في ثنائية التصنيف: إسلام مقابل جاهلية، أو بتعبير آخر افتراضي: إيمان مقابل كفر، أو هدى مقابل ضلال، وطالما أنه اعتبر أن عالم اليوم تسوده الجاهلية، فهذا يعني أن الجاهلية اليوم هي القاعدة وأن الإسلام هو الاستثناء، وقد يتصوّر البعض أنه يقصد بالإسلام عموم المسلمين، ولكنه سرعان ما سيكتشف أن “الطليعة الإسلامية”هي وحدها من تجسّد الإسلام، أي أن جماعة الإخوان المسلمين وحدها تجسد الإسلام وما عداها كله جاهلية.
قبل أن نناقش هذا المنطق دعونا نقف أولاً عند مفهوم الجاهلية.
في اللسان الجهل: نقيض العلم، واستجهله: عدّه جاهلاً، واستخفه أيضاً، والجهالة: أن تفعل شيئاً بغير العلم، وفي حديث ابن عباس أنه قال: “من استجهل مؤمناً فعليه إثمه”، قال ابن المبارك: يريد بقوله من استجهل مؤمناً أي حمله على شيء ليس من خلقه، فيغضبه، فإنما إثمه على من أحوجه إلى ذلك، قال وجهله أرجو أن يكون موضوعاً عنه ويكون على من استجهله، قال شمر: والمعروف في كلام العرب جهلت الشيء إذا لم تعرفه، وفي حديث الإفك: “ولكن اجتهلته الحميّة”، أي حملته الأنفة والغضب على الجهل، وقوله تعالى: (يحسبهم الجاهلُ أغنياء) يعني الجاهل بحالهم ولم يرد الجاهل الذي هو ضد العاقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبرة، وفي قوله تعالى: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) من قولك جهل فلانٌ رأيهز
وفي الحديث: “إن من العلم جهلاً”، قيل: وهو أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه من القرآن والسنة، وقيل: هو أن يتكلف العالم إلى علم ما لا يعلمه فيجهله ذلك، لكن لو فكرنا قليلاً لقدرنا أن علوماً غايتها التضليل والإفساد في الأرض إنما تخدم الجهل عملياً.
وورد في “اللسان” أن الجاهلية: زمن الفترة ولا إسلام، ونحن نعرف أنه اصطلح على وصف أوضاع المجتمع في جزيرة العرب قبل الإسلام بالجاهلية، لكننا نعرف أيضاً أن الإسلام لم يبدأ بالبعثة المحمدية، فإن سيدنا إبراهيم هو الذي سمانا بالمسلمين (من قبل وفي هذا) ونعرف أن هذه الصفة تنطبق على جميع المؤمنين الموحدين، وفي الحديث: “إنك امرؤ فيك جاهلية” هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك، ومن بين هذه الصفات “حميّة الجاهلية” وبوسعنا أن نلمس حميّة الجاهلية في قول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وبمنطق العلم فإن جاهلية العرب قبل الإسلام هي مجموع المعتقدات والعادات والتقاليد التي كانت سائدة بينهم والتي جاء الإسلام ليهذبها أو ليطرح منهجاً بديلاً لها أو بالأحرى لبعضها.
والسؤال الآن: عن أية جاهلية تكلم سيّد قطب؟.
بالتأكيد إنه لم يقصد بها الجهل الذي هو نقيض العلم، أي أنه لم يقصد حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والتقني التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية، ودليل ذلك أمران: أولهما أنه شمل العالم كله بتصنيفه، فاعتبر العالم كله جاهلياً ولم يقتصر على المجتمعات الإسلامية أو – وفق منطقه – التي يفترض أنها إسلامية، ولكنها في نظره جاهلية، وهكذا شمل المجتمعات المتقدمة علمياً بالتصنيف، وثانيهما أنه اعتبر أن نقيض الجاهلية هو النظام الإسلامي، أي النظام السياسي الإسلامي، وليس العلم، وهذا يعني أن تصنيفه جاء على أساس ديني سياسي وليس على أساس علمي أو حتى على أساس ديني بحت، مع العلم بأنه لا يوجد في الإسلام تحديد لنظام سياسي إسلامي، وإنما وردت فقط بعض المبادئ العامة كالعدالة والمساواة والشورى.
ولقد وصل في دعواه هذه إلى حدّ الدعوة إلى دين جديد أو مجدّد، يقول في كتابه: “معالم في الطريق” “إن دعاة الإسلام حين يدعون الناس لإنشاء هذا الدين، يجب أولاً أن يدعوهم إلى اعتناق العقيدة حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون ويعلموهم أن كلمة لا إله إلا الله مدلولها الحقيقي رد الحاكمية لله وطرد المعتدين على سلطة الله”.
سنرجئ الآن أي حديث حول موضوع الحاكمية، وسنكتفي فقط بذلك الجانب العقائدي القائل بأن المسلم المؤمن في نظر سيد قطب يكون منتمياً إلى المجتمع الجاهلي ما لم يُدْعَ “لإنشاء هذا الدين” الجديد ويستجيب، وذلك بـ”اعتناق العقيدة” الخاصة بجماعته، والالتحاق بهذه الجماعة التي أسماها بالطليعة، فبهذا المنطق يكون قد استجهل كل الناس واستثنى جماعته، ولم يكترث بالحديث القائل “من استجهل مؤمناً فعليه إثمه”، فما ذهب إليه هو استجهال المسلمين بالجملة، واعتبارهم جزءاً من النظام الجاهلي بالجملة.
ما الذي يكون سيّد قطب قد فعله بهذا المنطق؟.
إنه يكون أولاً قد خالف القرآن الكريم في تعريفه للمؤمنين المتقين (الذين يؤمنون بالغيب ومما رزقناهم ينفقون× والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون× أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون) (البقرة3-5) فهل في هذا التعريف القرآني الدقيق والواضح ما يشير إلى شرط الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين أو أي جماعة أخرى مشابهة، أو ما يشير إلى “إنشاء دين” بدل الدين القائم الذي هو في القرآن والسنة؟، أم أن سيد قطب تجاوز هذا التعريف واتهم لمؤمنين المتقين وفق ما حددته هذه الآيات وما أكثرهم بأنهم جاهلون؟، وهل في تعريف المؤمنين المتقين هذا ما يشير إلى نظام سياسي إسلامي يكون الولاء له جزءاً لا يتجزأ من الإيمان والتقوى، بل ويصير السعي إليه هو وحده دليل الإيمان والتقوى وفق منطق سيد قطب؟.
ثم إن سيّد قطب يكون ثانياً قد خالف القرآن الكريم بتصنيفه للناس دينياً، ففي مقابل تصنيف القرآن للناس إلى ثلاث فئات عاد سيد قطب إلى التصنيف الثنائي الذي كان قائماً قبل البعثة المحمدية، وكأنه بذلك يشطب التجربة الإسلامية وما أحدثته من تحولات بجرة قلم، بل ويتجاوز القرآن نفسه، معتبراً أن كل ما عدا حزبه السياسي أو جماعته هو ضال جاهلي، وهنا يكون سيد قطب قد خالف حتى سورة الفاتحة التي تميز بين المؤمنين المتقين الذين أنعم الله عليهم وبين الكفار المغضوب عليهم وبين الضالين، واعتبر أن جماعته فقط على حق وأن كل ما عداها جاهلي أو على باطل، ولم يميز هنا حتى بين كافر وضال، إذ أن هذا التمييز لا يعنيه، وربما كان يعنيه أن يخفيه.
وإذا قلنا: لعله لم يستوعب ما يعنيه هذا التصنيف الثلاثي في سورة الفاتحة، فوقع في فخ مخالفته، فهل نستطيع أيضاً أن نتجاوز عن تجاوزه للتعاريف الواردة في مطلع سورة البقرة (الآيات1-20) لهذه الفئات على نحو جامع مانع؟، فلماذا خالف التصنيف والتعريف؟، ولماذا لم يأخذ بالتمييز بين مؤمنين متقين وكفار وضالين، مع العلم بأن أيّ باحث يستطيع أن يميّز بين هذه الفئات، خاصة وأن القرآن تناولها في سور كثيرة وليس فقط في فاتحة الكتاب وسورة البقرة.
وعدا عن هذه المخالفة السافرة وتلك، فإننا لا نعتقد أن سيّد قطب، وهو صاحب كتاب “في ظلال القرآن”، يجهل الحقيقة القائلة بأن الحكم الإلهي على الناس إنما هو على أساس التقوى، وليس على أساس معيار آخر كالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، أو السعي إلى إقامة نظام حكم إسلامي، وهو أمر يؤكده الخالق عز وجل في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات13).
وهنا، وفي هذه الآية بالذات، نجد نقضاً مزدوجاً لمنطق سيد قطب: فلقد خلق الله الناس وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وليس لإقامة نظام سياسي موحد إسلامي أو غير إسلامي، فهذه قضية أخرى مختلفة، وأما أكرمهم عند الله فهو أتقاهم، وليس من ينتمي حصراً إلى جماعة الإخوان المسلمين أو غيرها، فالانتماء إلى مثل هذه الجماعات ليس جزءاً من التقوى، وأما شرعيته أو عدم شرعيته فقضية أخرى خاضعة للنقاش.
إن سيد قطب فيما ذهب إليه من تصنيف بين جاهلي و”أخ مسلم”، لأنه عملياً صنف الناس على هذا الأساس، يكون أيضاً قد خالف روح الإسلام حتى في تعامله مع ما أسماه بالمجتمع الجاهلي إذا افترضنا معه جدلاً أننا في جاهلية، ويكفي أن نضرب على ذلك مثلاً بقوله عز وجل: (قل للمخلفين من الأعرابِ ستُدعونَ إلى قوم أولي بأس شديدٍ تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبلُ يعذبكم عذاباً أليماً) (الفتح16) فإذا كان الأعراب، الذين لم يكونوا قد تخلصوا بعد من قيم وتقاليد المجتمع الجاهلي في جزيرة العرب زمن البعثة المحمدية، والذين سبق للمسلمين أن اختبروهم من قبل وفشلوا في الاختبار، قد أعطيت لهم من الخالق عز وجل مثل هذه الفرصة، فكيف يأتي في آخر الزمان من يتهم الجميع دفعة واحدة بالجاهلية، ويحكم على كل نتاج الحضارة العربية الإسلامية بأنه جاهلي، ويزعم أن من لا ينتمي إلى جماعته بالذات يكون مدموغاً بدمغة الجاهلية إلى ما يشاء الله، ويبيح لجماعته أن يعاملوه على أساس أنه جاهلي، بل أسوأ، وأن يستبيحوا حياته وممتلكاته على هذا الأساس؟!.
وإذا نحن سمحنا لأنفسنا بأن “نتجاهل” كل هذه المخالفات السافرة لما جاء في القرآن الكريم مثلما سمح سيد قطب لنفسه ليس فقط بتجاهلها بل بمخالفة القرآن، وأردنا مجاراته في التمييز بين جاهلية وإسلام كما فعل من اتبعوه، فهل نستطيع أن نتجاهل المعطيات التالية؟:
الأولى: هل هو صحيح أن الجهل في معناه العام هو كفرٌ أو حتى نقيصةٌ بالنسبة للمؤمن؟، أليس صحيحاً أن ما يجهله كل واحد منا هو أكثر بكثير مما يعلمه؟، وهل يستطيع سيد قطب أو سواه أن يدّعي بأن الانتماء إلى جماعته يعني خروج المنتسب تلقائياً من دائرة الجهل إلى دائرة العلم؟، ولنلاحظ أنه نسب حتى الدارسين المختصين والمتفقهين في الدين إلى دائرة الجهل طالما لم يلتحقوا بالجماعة، وكأن الالتحاق بالجماعة هو شرط الإسلام الوحيد وما عداه باطل، والواقع أن محاولة تثبيت هذا المفهوم نلحظها من قيام الجماعة بجعل قوله تعالى (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) شعاراً لها، وكأن جماعة الإخوان هي الحق وكل ما عداها هو الباطل!.
الثانية: إذا كان الجهل صفة غالباً ما يقترن بالأمية المعرفية، فهل يستطيع أحد أن يزعم بأن كلّ أميٍّ جاهل، أو أنه لا يمكن أن يكون مؤمناً تقيّاً إن كان جاهلاً أميّاً؟، إن مجرّد طرح هذا السؤال من شأنه أن ترتعد له الأوصال في ضوء حقيقة أن رسولنا العربي (ص) كان أميّاً وأن معظم الصحابة كانوا أميين.
الثالثة: إذا كانت الجاهلية بالنسبة لتاريخ الجزيرة العربية هي زمن الفترة ولا إسلام، فكيف يدّعي سيد قطب أنها عادت إلى الوجود، بل وبأشكال أسوأ مما كانت عليه حسب قوله، في عالم يوجد فيه الإسلام؟، إن وصفه للمجتمعات الحالية جميعاً بالجاهلية يعني أنه ينفي وجود الإسلام نفياً مطلقاً، فالمسلمون في نظره هم من انتموا إلى جماعته، وأما من لم ينتم إلى هذه الجماعة فإنه ينتمي إلى الجاهلية، وغير مُعتَرَفٍ بإسلامه، أو أن إسلامه الذي ورثه عن أبيه وجده ليس بالإسلام “الجديد” الذي تبشر به الجماعة، ولكن هذا الحكم بتجهيل المجتمعات سيكون فاسداً، وذلك بدليل بسيط، وهو أن هذا المجتمع ذاته، هو من أنتج أو نتجت عنه، جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الشبيهة بها، فلماذا تعتبر هذه الجماعات نفسها على حق وما عداها باطل طالما أنها نتاج مجتمعات جاهلية؟، فإذا قيل إنها صفوة من هذا المجتمع اتبعت سبيل الرشاد، قلنا: حسناً، هذه شهادة لهذا المجتمع على أنه ليس جاهلياً بالمطلق بدلالة وجود صفوة انبثقت عنه راشدة.
الرابعة: مهما كان حكمنا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم العربي والإسلامي، فإن هذا لا يحجب الحقيقة القائلة بسيادة الإيمان بالله ورسوله وشرائعه، أما أن يختلف الناس من حيث التقوى، فتلك مسألة طبيعية، ولكن الحكم عليها يعود لله وحده، وليس لأي جهة على وجه الأرض، ومن يدّعي لنفسه الحق في الحكم على إيمان الناس فإنه هو من يتصرف تصرفاً جاهلياً، يسند فيه لنفسه حكماً هو من حاكمية الله وليس من اختصاص أي من البشر، فإذا جاء من يجهّل الناس بالجملة، فإنه يكون قد اقترف إثماً عظيماً.
الخامسة: إن التزام المؤمنين المسلمين بالتقوى كما حدد الله شروطها في كتابه شيء، وإن المسائل المتعلقة بالحكم وبالأنظمة السياسية وحدود الدول شيء آخر مختلف تماماً، ولا تحكمه إلا المبادئ العامة التي حددها القرآن الكريم مثل إطاعة أولي الأمر، والعدالة، والشورى، وما زاد عن هذه المبادئ والأسس، بل وكيفية تطبيقها عملياً، هي أمور خاضعة للاجتهادات البشرية، وبالتالي، فإن سيد قطب حين ميّز بين أنظمة جاهلية يرى أنها هي السائدة في كل مكان ونظام إسلامي غائب يريد له أن يوجد، يجعلنا نسأله عن المعيار المعتمد في هذا التمييز، أهو العدالة والشورى وإطاعة أولي الأمر أم أنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فإن فعل كان يجتهد، واجتهاده قابل للمناقشة، ومن حق الناس أن تقبل أو أن ترفض ما جاء به من اجتهاد.
السادسة: إن وجود رواسب جاهلية في سلوك بعض المؤمنين، أو حتى في سلوك معظم المؤمنين، هي مسألة سلوكية فردية قد تؤثر على التقوى، أو تؤثر على السلوك، ولكنها تبقى طبيعية قائمة في سلوك الناس إلى يوم يبعثون، وهذا لا يؤثر على جوهر الإيمان إلا في إحدى حالتين: أن ينتقل المؤمن من فئة الإيمان إلى فئة الكفر، أو أن ينتقل منها إلى فئة الضالين، ولكل حالة توصيفها ومعاييرها التي يجب الالتزام بالحكم على أساسها، ولا يصحّ تجهيل الناس بالجملة، هكذا رجماً بالغيب أو افتراءً، ويبقى أن الحكم في المسائل الضميرية هو لله وحده وليس لأي فئة أخرى من دون الله أياً كانت هذه الفئة.
وإذا كانت العرب تقول “إن كل ما استخفك فقد استجهلك”، فإن ما فعله سيّد قطب عملياً هو أنه استخفّ بالتجربة الحضارية الإسلامية بكامل أطوارها، وفيها المضيء وفيها ما دون ذلك، بل وفيها أيضاً ما يسيء، ولكنها تبقى تجربة لا يجوز الاستخفاف بها ولا تجهيلها، كما أن الحكم عليها يختلف عن الحكم الصادر على عموم الناس، وقد رأينا كيف أنه وهو يفعل هذا خالف حتى فاتحة الكتاب في تصنيفها للناس من الزاوية الدينية على أساس ثلاث فئات فصنفهم فئتين، ومع ذلك فإننا لا نجد في أنفسنا ما يسمح لنا بالمقابل برد اتهامه إلينا جميعاً بالجهل بتجهيله حتى لا يقال بأنه أخذتنا حمّى الجاهلية، مع العلم أننا إذا فعلنا ذلك فمن منطلق الدفاع عن الإسلام.
لقد اضطررنا إلى مناقشة آرائه في تجهيل المجتمعات، لا دفاعاً عمّا يمكن أن يكون في هذه المجتمعات جميعاً من رواسب جاهلية، إذ أنه يعنينا السعي للتخلص من مثل هذه الرواسب، ولا دفاعاً عن النفس بعد أن اتهمنا جميعاً بالجاهلية، ولم يبرّئ منها غير جماعته مزكياً لها ومخالفاً بذلك النهي عن تزكية النفس، ولكن دفاعاً عن الدين الذي نحن به مؤمنون، فحين نكتشف في مكان ما أن هناك مخالفة لكتاب الله يفرض علينا الواجب أن نتصدّى لهذه المخالفة.
أخيراً نقول: إن الفئة الثالثة التي غيّبها سيد قطب عن التصنيف حين اختار التصنيف الثنائي: جاهلي أو إسلامي، إنما هي “فئة الضالين”، ولا ندري إن كان قد فعل ذلك متعمداً أم أنه وقع في السهو، أو أنه أدمج الكفار والضالين جميعاً في فئة الجاهليين، ولكننا في هذه الدراسة معنيون بشكل خاص بتعقب فئة الضالين هذه بالذات، ولا نرى من موجب لتغييبها عن المشهد، وذلك لسبب بسيط وهو أنها لم تغب، ولعلها لن تغيب أبداً عن الحياة الدنيا، فالقرآن الكريم ما صنّف وعرّف هذه الفئة، بل وأعطاها المساحة الأوسع من التعريف، لو لم يكن لها دور خطير تؤديه في حياة الناس، وما يتبين معنا حتى الآن هو أن الجماعات السلفية الإرهابية التكفيرية إنما هي فئة الضالين بالذات، وان جماعة الإخوان المسلمين أيضاً، وخاصة في ضوء “معالم في الطريق” التي اختطها لها سيد قطب إنما تنطبق عليها بالفعل كل المواصفات الواردة في القرآن الكريم لفئة الضالين.
إن منطق سيد قطب في توصيف الآخرين جميعاً بالجاهلية، لا بدّ وأن يجعلنا نستحضر بشكل مباشر قوله عز وجل (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) إن اتهام جميع الآخرين بالجاهلية واستثناء جماعة الإخوان المسلمين واعتبار أن إيمانها مختلف عن إيمان الآخرين الجهال إنما يدلل انطباق التعريف القرآني من هذه الزاوية على هذه الجماعات، ومع أنه كان يتوجب علينا تناول هذا الموضوع في نطاق تفسير هذه الآية بالذات، إلا أن الحقيقة القائلة بأن سيد قطب انطلق من تجهيل المجتمعات جميعاً لتكون مبرراً لدعوته ودعواه المتعلقة بالأنظمة السياسية ومفهوم الحاكمية وما يترتب عليه من إفساد، وخالف في هذه الدعوة القرآن الكريم بدءاً من فاتحة الكتاب بتبني التصنيف الثنائي المدّعى بديلاً للتصنيف الثلاثي المعتمد في القرآن الكريم جعلنا مضطرين إلى تقديم هذا البحث على موضوع “الحاكمية”، والذي سيكون موضع بحثنا التالي.
إن مجرّد اعتماد سيد قطب لهذا التصنيف الثنائي بدلاً من التصنيف الثلاثي المعتمد في القرآن الكريم يكفي وحده للدلالة على عدم الأهلية لما يزعم أنه حق لجماعته في حكم الناس كما لو كان حكمها ممثلاً للحاكمية الإلهية في مواجهة حاكمية البشر، إلا إذا كان للحكم الذي يدّعيه لجماعته سند غير القرآن الكريم، وتلك عندئذ قضية أخرى، فمن تجاوز فاتحة الكتاب والآيات العشرين الأولى من سورة البقرة ولم يلتزم بما جاء فيهما من تصنيف وتعريف كيف يمكنه أن يقنعنا بصلاحيته أو صلاحية أتباعه لقيادة الناس على سبيل قويم؟.