عذابات الوقت
سلوى عباس
لم تكن قد خطت خطوتها الأولى خارج زنزانتها بعد حتى استفاقت في ذهنها مئات الأسئلة.. فجأة تعثّرت خطاها، وضاق صدرها، وبعثرتها الحالة كقشّة اقتُلعت عن سنبلة على حين عاصفة، وتركتها هائمة في طرقات ضيّعتها مجاهيل الضباب.. في لحظة، ضاق الوقت، واتسع المكان لصور متعددة للحارات التي كانت ترتادها في طريقها من وإلى عملها.. مشت في الطريق لا تلوي إلا على ذاكرة تعود إلى زمن بعيد، راحت تستحضر ذكرياتها التي عاشتها في مدينة لم تعُد ملامحها تشبهها بسبب ما عاثه الظلاميون فيها من خراب..
ارتبكت الأنحاء حولها، واستوطن روحها حزن مرير، وتلبّسها همّ ثقيل مربك أوقفها على حافة الألم. كان كل الإحساس بالغربة واشتعال الانتظار، وهباب الوقت الذي انطلق للحظة في عكس اتجاهها، مركباً لا تسانده الريح، والأحزان والأشواق انهمرت على طريق طويل ظنّته لن ينتهي، وفي لحظة شاردة، وجدت نفسها في مواجهة مع مئات الأسئلة.. كيف ستكون حياتها المقبلة؟ كيف ستواجه الناس وهي التي غابت عن الحياة لسنوات من القهر كانت زوادتها فيها ذكرياتها وبعض الأمل بفرج قريب.. لكن الوقت طال وامتد لشهور ثم لسنوات، دون أن تعرف ماذا حل بأهلها وما مصيرهم في هذه الحرب الهوجاء.
في تلك اللحظة حضرت في مخيلتها ذكرياتها وكل اللحظات الجميلة التي أفسدت متعتها الحرب وغادرها الفرح والجرح يصرخ، وقد قض روحها النزف الذي يعانيه وطنها، فجلست في ركن قصي مستوحشة مثل طير اقتيد إلى قفص، أكثر ما يمكنه أن يفعل هو الصراخ، جلست تنتظر أن يأتي أحد من أقاربها أو معارفها ليأخذها إلى مكان أكثر أماناً من المكان الذي أنزلتها فيها الحافلة، ولو أنها في قرارة نفسها كانت قد فقدت الثقة بكل شيء، وبأن أحداً لايهمه وجودها.. بحر من الصمت بلا هدير، ولا موج يرشق حروفه اللينة في أذنها، متسمرة في مكانها كقطار تآكلت عجلات الطريق إليه، فقد حل بها إحساس باليتم ونبتت الوحشة في أضلاعها سريعاً وتشابكت مرارتها في عروقها.. وجدت نفسها محاصرة بحراب الصمت وهروب الذاكرة، وهي تتخيل أيامها القادمة كيف ستكون، وكم ستحتاج من ليال لتعيد علاقتها بالحياة والناس وبدء حياة جديدة تعوّض فيها سنوات العذاب التي قضتها في عتمة الزنزانة، وهل ستكفيها ليالي شهرزاد وحكاياتها لتقنع شهريارها -الذي كان قبل اختطافها بطلاً لحكاية عشق تشبه ما قرأته في الكتب عن الحب- بأنها عاشقته الوحيدة والمتجددة في كل الأوقات، أم أنها ستكون في مواجهة شهريارات كثر سينصّبون أنفسهم قضاة لمحاكمتها وهي تبحث في الوجوه عمن يمنحها صك براءتها، ويأخذ بيدها إلى عالم تكون فيه أكثر تصالحاً مع الحياة والناس.
أرهقتها هذه الهواجس كثيراً.. كانت كما مسمار يُطرق في جدار أصم يتردد رجع صداه في وجدانها بكثير من الألم، فانتابها إحساس مرير بالانتظار وترقبها المتوفز لحركة الوقت وارتجافات عقارب الساعة المنتظمة، وتلبسها الارتباك وتداخلت اللحظات المتواترة لتبين عجزها عن اللحاق بالدقائق التي تهرب منها، وانتصبت في وجهها جبال من رهبة التأخر مرهون بدقات الثواني تقرع أجراسها في رأسها.. مرصودة لعذابات الوقت الذي ينسرب منها سريعاً ويترك في يدها حرارة الرمل ويرسم وجهها بالغبار.