دراساتصحيفة البعث

الحرب والسلام

 

ترجمة هيفاء علي

عن ريزو انترناسيونال 31/5/2018

أثار استقبال فلاديمير بوتين لرئيس الوزراء “الإسرائيلي نتنياهو” في التاسع من أيار الماضي في موسكو أثناء حضور الأخير الاحتفالات بانتصار روسيا على النازية، حيرة وحفيظة كثيرين من المعسكر المقرّب من روسيا الذين رأوا فيه إشارة على التراجع أو العزوف، ولكن لا شيء من هذا القبيل، وإنما له مدلول آخر مختلف سيتضح من خلال فهم منطق الحرب والسلام.

منطق الحرب

عندما يُراد  إضرام نيران الحرب بأي ثمن، فلابد من تحديد العدو ومحاربته. وفي الغرب كانت تدور رحى الحرب من قبل الجنود المشاة اليونانيين المدججين بالسلاح في السهول على الجبهات، كما شرح فيكتور دافيس هانسون في كتابه “النموذج الغربي للحرب”، ولكن في يومنا هذا، عقب الحربين العالميتين في القرن العشرين، لم يعد بالإمكان الانخراط في حرب على هذا النحو بناء على قرار طائش، أو رغبة فردية في الغزو، بل يتطلّب الأمر تحضير ذرائع، والحصول على أدنى نسبة من إجماع الشعب وموافقته على شنّ الحرب، أو على الأقل الحدّ الأدنى من معارضته. نحن -الغربيين- نشنّ الحروب على الدول المستقلة والسيادية باسم حقوق الإنسان وإرساء الديمقراطيات في كل مكان، خاصةً في المناطق التي يوجد فيها النفط والغاز. بناءً على ذلك بوسعنا الانطلاق لمحاربة “قوى الشر”، فيما تقوم وسائل الإعلام المهيمنة بمهمة النشر والإعلان لبيع المنتج لأكبر نسبة ممكنة من العامة. عندما يكون هناك إمبراطورية تواجه صعوبات وهي في طريقها للصعود فإنها تسعى لاستعباد دول أخرى وتفرض عليها بطريقة امبريالية اختيار معسكرها، “إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا من معسكر الأشرار”. ما من خيار آخر، لا نقاش ولا جدال: نعم أو لا. الطريقة مزدوجة كما النتيجة المتوقعة. خلاصة الكلام، منطق الحرب يحدّد الرابح والخاسر والعملية سريعة والغنائم تكون لحساب الرابح فقط.

منطق السلام

عند السعي لإرساء السلام، لا بد من توفر القدرة على النقاش والتباحث مع الجميع، وعدم إغلاق الأبواب أمام الحوار، والقدرة على الاستماع للآخرين وفهم ظروفهم وأوضاعهم وشرح همومهم ومشكلاتهم أيضاً. كما يقتضي الأمر طرح العمل على طاولة الحوار من أجل خير الجميع ومن أجل تطور المسار العام لعملية السلام. زيادةً على ذلك، لا بد من الحفاظ على حرية العمل الكافي لتوفير القدرة على التوجّه والتأقلم بمرونة، وعدم الغوص بعيداً في اتجاه قد يؤدي إلى مأزق، كل ذلك مع تثبيت الحدود المتمثلة بالامتيازات. ذلك أن السلام يقوم على التوازن، فالحرب الباردة لم تتحوّل إلى حرب مفتوحة لأنه كان هناك توازن: توازن الرعب. بالتأكيد ليس هذا الأفضل الذي نحلم به، ومع ذلك هو توازن. التوازن ليس اعتبار التجارة دعامة السلام، كما أراد الليبراليون المتشددون إفهامه وإيصاله لنا، بالمقابل ليس مسموحاً التكلم عن الحروب التجارية، فالتوازنات تولد ظواهر عنيفة  تماماً كما تتولد  أقواس  كهربائية نتيجة  الفروقات الكبيرة في القوة الكهربائية بين ناحيتين، ورياح عنيفة  نتيجة فروقات الضغط الجوي بين مكانين… وهكذا.

خلاصة الكلام، منطق السلام معقّد، دقيق الفهم، متفاعل وذو تسويات، وقد يعني الرجوع إلى الخلف إذا اقتضى الأمر كي يتقدم التوازن لصالح الجميع. وعليه، العملية بطيئة جداً.

لفهم بوتين بشكل أفضل

منذ البداية، دأب فلاديمير بوتين ووزير خارجيته  لافروف على استخدام الأدوات التصورية والمنهجية لمفهوم السلام: التباحث والنقاش مع الجميع، العمل من أجل تحقيق التوازن، عدم إغلاق باب الحوار، تحديد الأمد والامتيازات. هكذا تدخلت روسيا في سورية بناء على طلب من الحكومة السورية من جهة، ومن الجهة الأخرى لأنه لو وقعت سورية بأيدي التنظيمات الإرهابية التكفيرية، لتواجدت روسيا في الخطوط الأولى لمواجهة الإرهاب على أراضيها في القوقاز. زيادة على ذلك، أثناء المؤتمر الأخير في سان بطرسبرغ أعلن بوتين أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو غير مقبول بالنسبة لروسيا على الإطلاق.

فيما يخصّ السياسة الروسية إزاء سورية، “إسرائيل”، تركيا والشرق الأدنى عموماً، فمن الضرورة بمكان محاولة تحليل السعي من أجل التوازن على ضوء مفهوم السلام. على سبيل المثال، عقب العدوان الثلاثي الأمريكي-الفرنسي-البريطاني على سورية في 13 نيسان المنصرم، صرّح الجنرال سيرغي رودسكي أن روسيا تفكر بتزويد سورية بمنظومة الصواريخ “أس 300″، أي منح هامش للمناورة في المستقبل، ولكن عقب زيارة “نتنياهو” لموسكو، أعلن بوتين أن روسيا لن تبيع منظومة “أس 300” لسورية في الوقت الراهن. ليس هناك أي تناقض في التصريحين، كل ما في الأمر وبكل بساطة السعي للتوازن والحفاظ على هامش للمناورة، مع علمه اليقين أن “إسرائيل” هي أكثر بلد في المنطقة يولد عدم التوازن والاضطراب. يبقى أن نعرف إذا فهمت  “إسرائيل” مفهوم السلام في الحالة المعاكسة، فسيكون هناك خطوط حمراء بالتأكيد.

 

أفول الدبلوماسيات الغربية

منذ عقدين من الزمن على الأقل، فقدنا نحن -الغربيين- والفرنسيين على وجه الخصوص، عادة التفكير بالعلاقات الدولية شيئاً فشيئاً بطريقة معقدة وبطيئة، وتحديداً منذ أحداث 11 أيلول2001 ، فإن تنسيق العبارات مثل “نحن الأمريكيون” و”إذا كنتم لستم معنا فأنتم ضدنا”، حوّلت فكر الاستراتيجيين الغربيين، وفكر سياسيينا وخبرائنا ووسائل إعلامنا نحو “المانوية” –هي عقيدة الصراع بين النور والظلام، صاحبها ماني الفارسي- وخضوعها جميعاً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.

لذلك، نسبة قليلة من الغربيين تحاول اليوم فهم الدبلوماسية الروسية ذات الأدوات التصويرية والمنهجية المتبناة، حتى بالنسبة لنا نحن المقربين لروسيا، كوننا تعرضنا للتسمّم بمنطق الحرب، المانوي والوحشي، منذ عقدين. وهو الشيء نفسه الذي حصل مع دبلوماسياتنا، ذلك أن الموقف البريطاني الهستيري من روسيا أثناء قضية العميل المزدوج سكريبال، وحماقة ميركون-جوبيليه في سان بطرسبورغ، والقرارات الأحادية الجوانب الوحشية والمفاجئة التي اتخذتها الولايات المتحدة بحق روسيا، كل ذلك يشير إلى تدهور عميق في نوعية ومستوى دبلوماسيات الدول الغربية.

 

السلام..

يلزمنا وقت طويل لبناء وتشييد بنى تحتية، صداقة ومحبة، تعاون وتضامن. بالمقابل، يلزمنا القليل من الوقت لتدمير كل ذلك. مفهوم السلام هو عملية بناء بطيئة، في حين أن مفهوم الحرب هو عملية تدمير وحشية وسريعة. لبناء وإرساء السلام، لابد من وجود أمم قويّة، ولشن الحروب، يكفي أن يكون هناك أمم عنيفة. فالقوة لا تمضي من دون الكرم والمروءة، والقوة من دون الكرم هي العنف قولاً واحداً.