صحيفة البعثمحليات

“صناعة الإنسان”..!

في ذروة الإعصار الفيسبوكي، وما عصفت به مواقع التّواصل الاجتماعي، من ردود أفعال على المناهج التّربوية مطلع العام الدّراسي الماضي؛ لفت أحد المسؤولين التّربويين عن هذي المناهج إلى: خطأ التّوقيت في طرح المسألة وقد انطلقت آنذاك العمليّة التّربوية؛ وفضّل تأجيل مناقشتها إلى فصل الصّيف ليتسنّى أمر تدارك هفواتها إن وجدت..!
وإذ استطالت السّجالات حينذاك، وفاضت المسألة بمروحة واسعة من الآراء والمواقف ووجهات النّظر؛ فلا بدّ من اغتنام عطلة الصّيف لإعادة التّذكير بأهميّة المناهج التّربويّة في صناعة الإنسان، وضرورة استنباط الأفكار واستخلاص العبر في رسم السياسات التربويّة خصوصاً، والتّعليمية عموماً، بما يتّسق مع حاجات المجتمع ويلبّي تطلّعاته، اعتماداً على طرائق التّربية الحديثة واستئناساً بتجارب الأمم المتقدّمة.
وإذا ما سلّمنا بأن التّعليم وسيلة تربوية قوامها صناعة الإنسان معرفيَّاً ونفسيّاً وجسديّاً؛ فإنّه يتحتم على السياسة التّربوية لحظ حقوق الطّفل وحاجاته وإفشاؤها، لتمكين هذا الكائن الغضّ من تلبية احتياجاته الأساسية، وتحقيق ذاته، وتوسيع الفرص المتاحة لتسييل طاقته وقدراته بما يتلاءم مع طبيعته وتكوينه، ويرسّخ فضاءات كرامته الإنسانية، وهذا لن يتأتّى إلا بتنظيم المعايير التعليمية وبرمجتها بما يكفل رعايته صحياً وتعليميّاً ونفسيّاً، وضبط المناهج التي ترسم فضاءات نشأته الاجتماعية والمدنية والقانونيّة.
وثمّة من أدلى بدلوه من أكاديميين تربويّين، شدّدوا على أهمية الابتعاد عن التّلقين وإثراء منظومة المناهج التّعليمية بحقوق الطفل وواجباته، لتنمية الوعي القانوني لديه على التّوازي مع الارتقاء بمستوى نضجه وإدراكه، وضمان وعيه بأهمية معرفة القوانين والالتزام بها، والعمل في إطارها؛ باعتبار أن المستقبل صناعة تربويّة؛ تقودنا إلى تأسيس بيت خبرة مهتم بإعداد جيل قادر على التّعامل مع الظواهر والقضايا والمتغيّرات التي تجتاح العالم، والوعي باستراتيجيات التغيّر الاجتماعي المعمول بها في مثل هذه البرامج العالمية، لتمر بثلاث مراحل، هي: معرفة الحقوق، فالمطالبة بها، ومن ثمّ الدّفاع عنها.
وإذا كانت التّربية نافذة المجتمع لتحقيق غاياته وأهدافه، فإنّ المناهج التعليمية هي معول التّربية في هذا الحقل، التي يتوجّب عليها تربية الطّفل على المواطنة الصّالحة، وتحقيق الذّات، واحترام الآخر المختلف، والتّكيّف مع البيئة المحيطة؛ وهي بهذا تهيّئُه لتبنّي مفاهيم الانتماء للوطن، والاعتزاز بالهويّة الوطنيّة، والدّفاع عنها، ونبذ الهويّات ما تحت الوطنيّة؛ كالقبليّة والعشائريّة والطائفيّة والاثنيّة، ولتطبيق هذه الغايات والتّطلّعات وصياغة تلك المفاهيم يتوجّب إعداد خريطة متتابعة؛ لتضمينها المحتوى المعرفيّ بأسس تفاعل نشطة، وتحت إشراف خبراء متخصّصين لهم أدبياتهم وبحوثهم وتوصياتهم التي فاضت بها النّدوات وورشات العمل.
إنَّ أهمية الوعي بارتباط الحقوق بحاجات الطفل الأساسية وإشباعها؛ كحقّه في الحياة والبقاء والنّماء والتّعليم والصّحة والتّرفيه واحترام رأيه، تحتاج إلى مُناخ منفتح متوازن ينشده الطفل لتأكيد ذاته، واكتشاف عالمه المحيط، وإحساسه بقوّة تأثيره في الآخرين، وحاجته إلى التمثّل؛ التي تقوده إلى أنموذج يحاكيه؛ وهذا كلّه معقود على المناهج التعليمية؛ التي لها بالغ الأهميّة عند إعدادهم وتأهيلهم لممارسة حياتهم في المستقبل. على أن شؤون الطفل بحكم طبيعتها لا تقبل التّجزئة أو العلاج الجزئي للظّواهر السّلبية عند حدوثها، فهي متّصلة ومترابطة ومتفاعلة؛ لذا يتوجب علينا إعادة النظر في السياسات والنّظم المعنيّة بشؤون الطّفولة لتحقيق الاتّساق والتّوافق مع المناهج والمبادئ المستحدثة في الاتفاقية الدّولية لحقوق الطفل؛ ذلك أنَّ الاتفاقية الدّولية ليست مجرد إطار قانوني عام فحسب، بل رؤية ووسيلة للتعبير، وهي تمثل نقطة نوعية في تناول شؤون الطفولة التي تعاني الكثير من ويلات الحرمان والاستغلال والتشرّد والحروب.
والحال أنّ الخروج من بوتقة اجترار الذّات وتكرارها في صياغة مناهجنا، وما تستولد من خسارات القيمة المضافة، تستوجب ودونما تلكؤ اعتماد هيئة تربوية أكاديمية منغمسة فعلياً وميدانيّاً -لا صُوريّاً- في الواقع المدرسيّ؛ كجهة إشرافيّة أصيلة على المناهج، جنباً إلى جنب مع الهيئة الفنيّة المشرفة المتخصّصة في كل مقرّر، وتمكينها من مفردات وآليات تحقيق رؤاها القابلة للقياس والتّقويم، ومن ثمّ محاكمة نتاجاتها إمّا عبر منهاح تجريبيّ على عيّنات محدودة، وإمّا بمقاييس معياريّة بعديّة، تحصيناً للمخرجات وضماناً لفضاءٍ سليم، ماديّاً ومعنويّاً لصناعة الإنسان..!
أيمن علي
Aymanali66@Hotmail.com