الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ربّةُ الوجْهِ الصَّبُوح

د. نضال الصالح

وكنتُ أقرأُ: “ولم يكد أبو عبيدة يغادرُ قنّسرينَ، حتى نكثَ أهلُها بعهدهم له، وحتى عادوا إلى موالاة الروم ومبايعة هِرَقلَ. ثمّ، ما إنْ علموا بما أعدَّ لهم مِنَ القتال، حتى قضَّ مضاجعَهم الندمُ، فكاتبوه على الإيفاء بما كانوا عاهدوا عليه. وعندما حاولَ هرقلُ العودةَ إلى قنّسرين، وعندما لم يتمكّنْ منها، علا على شرَفٍ، والتفتَ نحو قنّسرينَ، وقالَ: عليكِ السلامُ يا سوريةَ، سلامٌ لا اجتماعَ بعده، ولا يعود إليك روميٌّ أبداً إلا خائفاً”.
وما بلغتُ النهايةَ ممّا كنتُ أقرأ، حتى ضوّأتْ “ميْسُ” أبهاءَ الروح التي كانت ازدحمتْ فيها ظُلماتٌ على ظُلمات، فتلعثمَ القلبُ بالخفْق كما كانَ تصدّعَ أوّلَ مرّة. كانَ ذلكَ في دار الكتب الوطنية، وكنتُ مستغرقاً في قراءة “زُبْدة” ابنِ العديم. ومِن الشارع الذي تطلّ الدارُ عليه كانَ صوتُ المغنّي يتناهى إليّ وهو يصدحُ: “خمرةَ الحبّ اسقنيها”، وما كدتُ أطوي الكتابَ، وأرهفُ روحيَ للصوت، حتى توردَّ وجهُ الضوء الهاطل مِنَ النوافذ حياءً مِنَ ضوءٍ كانَ، على غفلة من الزمان والمكان، عبقَ في مدخلِ القاعة، وحتى بلغَ الصوتُ عندلَتهُ: “يا ربّةَ الوجه الصّبوح”.
سألتني ميْسُ إنْ كنتُ أسمحُ لها بمجاورتي، فأومأ القلبُ لراحة يُمناي أن تومئَ لها بالرّحْب والسّعَةِ، والسّعَةِ والرّحْب. ولم تكد تستريحُ، ولم تكد ترى الكتبَ المزدحمةَ على الطاولة، حتى كاد صوتُها يتصادى في القاعة لولا حُمْرةٌ عبقتْ في خديّها، فانتبهتْ إلى نفسها، فأتتْ على آخر سؤالها كما لا يسمعها سواها. قالت: “زبدةُ الحلَب في تاريخ حلب؟”، وأردفتْ: الكتابُ الذي أترجمه الآن إلى الإنكليزية.
ولم تكملْ ميسُ الترجمةَ، ولم أرها بعد ذلكَ. كانَتْ ظُلمةٌ غزتِ المدينةَ. تداعتْ على حلبَ ذئابٌ من غابات الأرض كلّها. وكنتُ كلّما أويتُ إلى روح ميْس أكتبُ لها، وأطيّرُ الأوراقَ مِن نافذة الغرفة لعلّ طائراً، لعلَّ ريحاً تحمُلها إليها، وما كنتُ أفعلُ، حتى كانت الروح تحشرجُ بغير سؤال، وحتى كانَ صوتٌ كأنّه الغناءُ يتردّدُ في الفضاء حولي: “قابَ إشارتيْن مِن ريْحانها أو أدنى”، ثمّ يتهاطلُ من غير جهة ما يشبهُ الترتيلَ: ممجّدةٌ هذه القدّوسة سوريةُ.. هذه الـ”حلبُ”. غزاتُها جميعاً صاروا غباراً، وغزاتُها الآن سيصيرون غباراً.
ولم تكنْ ميْسُ تسمعُني، ولم يحمل طيرٌ، لم تحملْ ريحٌ، إليها ما كنتُ أكتبُ. كنتُ، يوماً إثْرَ يومٍ، وآبدةً إثْر آبدةٍ تتهاوى بأنفاقٍ متخمة بالحقد والجنون تحتها، وشهداءَ إثْرَ شهداءٍ يمضونَ إلى السماء بقذائف جهنّم، وحصاراً إثْرَ حصار، آوي إلى بُغية ابن العديم، فإلى زُبْدته، وأقرأُ، وأقرأُ. وآبدة كانت تتهاوى إثْر آبدة، وشهداءٌ يمضونَ إثْرَ شهداء، كانت حلبُ تنشجُ كما لم أقرأ في كتاب، وما كنتُ أوغلُ في النشيج، حتى حطّ طيرٌ، لم أكن رأيتُ مثله، على كتفي، ثمّ، بمنقارِ، لم أرَ مثله، ثمّ دفع بورقةٍ صغيرة إليّ، فقرأتُ: “سيأتي الصباح، سيأتي يا أبي، وسيكونُ صباحاً جديراً باسمه، وباسمه ستبدعُ حلبُ قلعتَها، قلاعَها، مِن جديد”.
ولم يكد الصباح ينهضُ.. لم يكد يأتي، حتى سمعتُ المدينةُ كلّها تغنّي: “ربّةَ الوجه الصّبوح”.