عزيزة مريدن أول أســـتاذة فـي جـامــعــة دمشق
جاءت إلى الجامعة والحياة بهدوء، ورحلت بهدوء وصمت، لن يُسمع عنها صخباً ولم نسمع لها صوتاً، وإنما كنا نسمع لها محاضرة وتأليفاً. عزيزة مريدن أول أستاذة جامعية تُعين في جامعة دمشق قسم اللغة العربية، في الوقت الذي كان فيه موقف القسم معروفاً في تعيين السيدات، سيرة هذه الأستاذة كانت حاضرة في الأمس ضمن ندوة “سوريات صنعن المجد” التي يديرها د. إسماعيل مروة بعنوان “عزيزة مريدن المربية والأستاذة الجامعية” في مكتبة الأسد.
مسيرة هادئة
عانت الأستاذة مريدن من صعوبات مجتمعية ومعنوية في مسيرتها، وفي “صورة عن قرب” تحدث ابن أختها الأستاذ صفوان قدسي عن خالته فقال: انتسبت مريدن إلى دار المعلمات في دمشق لدراسة التربية وأصول التدريس مدة سنتين، ثم انتسبت إلى جامعة دمشق كلية الآداب قسم اللغة العربية ونالت الليسانس في الآداب عام 1951، ومارست التدريس في ثانويات البنات الرسمية عدة سنوات وسافرت بعدها إلى مصر والتحقت بجامعة القاهرة وحصلت على شهادة الماجستير عام 1964 بامتياز، وكان موضوع رسالتها “القومية والإنسانية في أدب المهجر الجنوبي”، ثم أوفدت ثانية إلى القاهرة ونالت درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عام 1966 وكان موضوع أطروحتها “الشعر القصصي”.
تنحدر عزيزة مريدن من عائلة مثقفة ومنفتحة، أخواها طبيبان وشقيقتها أستاذة في التربية تخرجت من مصر في فترة الأربعينيات، كانت مسيرتها هادئة، باستثناء ما واجهته في المجال الأكاديمي حيث كان هناك محاولات لمنعها من أن تحتل موقعها في جامعة دمشق- كلية الآداب قسم اللغة العربية، فهي أول امرأة تقتحم هذا القسم المحاصر بمجموعة من المتشددين والمتعصبين الذين لا يتقبلون فكرة تواجد امرأة بينهم تكون قادرة على الأداء وهذا المستوى الأكاديمي، إلا أن عزيزة تغلبت على الصعوبات الكبيرة فكانت مثابرة وقوية ومواظبة، وشخصيتها حاضرة دائماً واستطاعت أن تفرض نفسها في الهيئة التدريسية، وكان الفضل للدكتور عبد الكريم الأشتر الذي عينها كأستاذة جامعية.
الأستاذة الجامعية
لم تصادر د. مريدن رأي الطالب “محمد موعد” في مقتبل عمره، بل شجعته إلى أبعد مدى عندما لمست صحة العزم منه فأجلسته على كرسي الأستاذ الجامعي، وللحديث عنها كأستاذة جامعية قال د.محمد موعد:
كانت الأستاذة القديرة عزيزة مريدن صاحبة منهج علمي صحيح في فهم النص وما وراءه، تخوض في أدق التفاصيل، كان شغفها الكبير بالكلام هو التجديد بالرغم من أن الكثيرين كانوا يصفونها بالتقليد وحب القديم وهي لم تكن كذلك، وليس أدل على ذلك من كلامها نفسه الذي سطرته في كتابها الجامعي الموسوم بحركات الشعر في العصر الحديث حيث تقول: “وفي شعرنا الحديث عامة نجد قصائد نظمت في المناسبات السياسية والوطنية والقومية، كما نجد قصائد تتناول الحياة الحديثة والمخترعات كالطيارة والغواصة، ولكن هذا كله يظل حركة سطحية في التشديد لأنه لا يقوم على منهج مرسوم ولا اتجاه معين”.
جرت محاولة أخرى لتجديد الشعر العربي في العصر الحديث آثر فيها الشعراء أن يستعيروا بعض اتجاهات الغربيين في تفسيرهم وشعورهم وخصوصاً الاتجاه الرومانسي حتى أضحى كثير من قصائده كأنه ترجمة، وبالغ بعضهم فقال إن الأساليب العربية القديمة لم تعد تلائمنا في هذا العصر، ونسوا أن صيغ التفكير الفني لأمة من الأمم لا يمكن أن تُهجر مرة واحدة إلى صيغ أمم أخرى لذلك لم تحدث هذه الحركة الانقلاب المنشود لأنها كانت متطرفة في التجديد، صحيح أن بعض هؤلاء قد نجح في هذه الحركة الأخيرة لكن الذين نجحوا هم الذين استطاعوا أن يوازنوا بين الصياغة العربية وبين الأفكار والصور الغربية، وهم أيضاً الذين كان لهم محاولات ناجحة في الشعر العربي الأصيل.
جهود التأليف
ود. مريدن رائدة من رواد دراسة الشعر الحديث في جامعة دمشق، وتحت عنوان “عزيزة مريدن وجهودها في التأليف” قالت د.ماجدة حمود:
اختطت مريدن طريقاً جديداً في زمن كان معظم الدارسين يحتفون بالشعر التراثي، كسرت النمط الشعري السائد منذ القديم، وأسهمت في نهضة الشعر، وكل همها كان تسليط الضوء على حركة تقوم على أسس ثابتة وأصيلة، ولم تكتف بالوقوف عند حركة البناة الذين أحيوا الشعر بل سلطت الضوء على المجددين الذين أفلحوا في إعطاء حركة الشعر وجهة جديدة ليؤسسوا قيماً لم يعرفها الشعر العربي من قبل، وفي كتابها “حركات الشعر العربي في العصر الحديث” بينت مريدن بدقة تأثر شعراء الحداثة العرب بشعراء غربيين.
سجلت مريدن دعوة الشعراء إلى الاستقلالية وعدم التقليد، ولكنها حذرت من الوقوع في هوة سحيقة أشد وطأة هي تقليد الشعر الغربي، لذلك رأت أن هذه الحركة ستكون هجينة غريبة عن التراث. تنفر من الشعر الذي لا تجد فيه أسساً تراثية واضحة خاصة في مجال الوزن، لهذا ركزت الضوء على نوع واحد هو “شعر التفعيلة” الذي دعته بالشعر الحر.
كانت عزيزة مريدن مهمومة بأن تكون ثورة الشعراء تجمع الأصالة والمعاصرة لذلك نال إعجاب أولئك الذين لم ينفصلوا عن تراثهم الشعر فظلوا يستلهمونه، وفي الوقت نفسه حاولوا أن يضيفوا إليه بعض ما تأثروا به أثناء اطلاعهم على الشعر الانكليزي، وبذلك انفتح هذا الشعر على التاريخ والأسطورة وانتبه إلى الإيحاء الرمزي للغة. وعاشت في زمن شاعت الواقعية الاشتراكية في الفكر العربي والسياسة والأدب وخاصة في بلاد الشام، لهذا كانت ممن تأثروا بها إلى جانب الفكر القومي، مما جعلها تدعو الشعراء إلى الاهتمام بوظيفة الشعر الاجتماعية وقد أعجبت بشعراء التفتوا إلى المجتمع وجسدوا أمراضه ومعاناة شعبه.
جمان بركات