ثقافةصحيفة البعث

المونديال والناس

 

طلب أحد الأطفال من أبيه أن يشتري له علم البلاد، بعد أن رأى فتية يحملونه وهم يمرون بطريقهم ويتباهون بألوانه، وعندما وجد الأب مكانا يبيع الأعلام، عرض عليه البائع له جميع الأعلام المعروضة للبيع، تلك المنتصبة وسط واجهة المحل وكأنها ألسنة ممدودة للخارج، وتلك المعلقة والمتدلية و”النابقة” من الأرض، وهذه الأعلام هي في الحقيقة، أعلام لفرق تلعب في المونديال الروسي لهذا الموسم 2018، إلا أن علم البلاد لم يكن موجودا بين باقة الأعلام الملونة، فاكتفى الوالد بالدهشة والطفل زاد بكائه.
رغم أن صاحب المحل مثلا من الذين يضعون العلم الوطني على غطاء المحل التجاري الخاص به، لكن فكرة أن المونديال العالمي الذي يصيب الناس بالهوس، تستولي على كل ما هو محلي من أحداث، تظهر حتى في هذا المثال البسيط، ويصبح صراع المنتخبات في الجري خلف المدورة الساحرة، مرهونا بالشرط السياسي للعالم، ولن يبتعد في سيره عن حال وواقع الناس عموما، فالقنوات السعودية تحتفل إن خسر الفريق الإيراني، والمشجعون السوريون لا يزعجهم بتاتا أن تخسر السعودية في المباراة الافتتاحية وبنتيجة مهولة أمام المنتخب الروسي الذي يستضيف هذه التظاهرة العالمية؛ هنا الصراع الكروي لا يقف على ما تفعله أرض الملعب وما يجري فيها من أحداث، بل بتداعياتها التي تكتظ فيها مواقع التواصل الاجتماعي-مرآة الوعي العام الآن- حول تقسيم الناس وبشكل عنيف بين ثقافتين مختلفتين، دون أن يعرف حتى المختلفون، لم هم بهذا الحال؟ ورغم أن هذا المونديال لم ينل اهتمام السوريين بعد غيابهم وإقصائهم عنه، على يد فريق المنتخب الحليف في السياسة –وهذه هي النزاهة الرياضية وأخلاقها-، حينها أيضا اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بين هذا الربط بما هو سياسي أيضا، بالذي هو حال عام، والحدث الذي يُفترض به أن يكون ممتعا للعالم، صار سببا من أسباب فرقتهم أيضا على كثرتها، حتى وهم على نفس الطاولة يجلسون.
السوريون وكعادتهم لن يفوتهم هذا العرس وإن كان بنسبة أخفّ هذا الموسم من غيره، رغم عودة الحياة للبلاد بشكل مقبول وتدريجي، ففداحة ما شاهدوه بأعينهم من دمار وموت وغياب وقهر وجوع وبؤس، جعل كل أحداث العالم في ضفة، وأحداثهم الخاصة بهم في ضفة، حتى أن العالم برمته منشغل بها، أفلا ينشغلون هم بحالهم؟، لكن بعض المطاعم وأماكن السهر، لم يفتها أن تستفد من عروض المباريات المحظورة إلا على المشتركين، بعد خصخصة الرياضة العالمية، وجعلها واحدة من أهم مسالك التجارة ولكن ببضاعة مختلفة، هنا التأهل والفوز والنقاط والاستضافة وغيرها، كلها موجودة في المزاد الخاص، وسمعنا الكثير عن المونديال العالمي الذي سيقام بقطر بعد أربعة أعوام، وعن مدى الشكوك العالمية، حول صحة أنها استحقت ذلك بالطريقة المعتادة لا من خلال الرشاوى التي دفعتها تلك الجزيرة العائمة على الذهب، إلا أن اهتماما عالي المزاج جريا على بطولات سابقة، لم تتم ملاحظته في الشوارع العامة والأماكن التي عادة ما تكتظ بعشاق المستديرة الساحرة، بل عاد زمن “الأنتيل” الذي يلتقط المحطات الشاردة، وبعضها يعرض لمجريات المونديال، فلا تسمع: هل جاءت الصورة؟ هل هي أوضح هكذا؟ ومن هذا القبيل، بينما أشخاص يتعمشقون على الجدران، لتظهر تلك القناة اللئيمة.
في هذا الوقت، ثمة فتاة ترتدي “تيشرت” عليه علم ألمانيا، وأخرى البرازيل، تخرجان من شباك سيارة، وتهتفان، وعلى الجانب الآخر من الطريق الذاهب من دمشق باتجاه طريق السفر الدولي، مرّت 3 جنازات، لجنود شهداء رُفعت صورهم على شبابيك السيارات، لا كنجوم المونديال، بل كنجوم الظهر، وخلفهم جرى موكب كئيب، كان يمشي وكأنه لا يريد أن يصل.
إنها السريالية في أنقى أشكالها، تتبختر على الطرقات، هكذا يموت البعض ليحيا البعض الآخر، وكل له عالمه الخاص، فالشهداء يحبون كرة القدم أيضا، وهم كل مساء يجتمعون في صالة مطالعة وكأنها من العصر الإليزابيثي، يشاهدون المباريات واقفين على أقدام جرحهم، ثم يهمون بالعودة إلى حيث لا يعلم أحد، لكن أحدهم لن يلبس علم الفريق البريطاني أو الفرنسي، ويخرج من شباك السيارة ليصدح بأسماء غريبة عجيبة، فلديه زيه الخاص، وهو الأجمل بين أزياء جميع الفرق، حتى انه يدّلك على النصر، كما أنهم معتادون على أن يكونوا جميعا في سيارة واحدة، يكادوا يخرجون منها من ضيق المكان.
وفي رصد عام لأحوال المقاهي والمطاعم والكافيتريات التي تبث الحدث، فاغلبها أيضا يُنافس بعضه بجذب جمهور النظّارة، ومنهم من سطا على الأرصفة المخصصة للمشاة، سواء كانت أوراقه نظامية أو العكس، هذا طريق للناس وليس ليحتل أشباح “شارلي شابلن” مثلاً كل بلاطات جسده، دون حتى مسافة بينية صغيرة، تسمح بمرور أصحاب المكان الحقيقيين –أي المشاة- ولن نتكلم عن أسعار تلك المحال، فرزق الهبل على المجانين كما يقال، لكن هذا المونديال غيّر الهوية البصرية لمدينة تنفرد بالخصوصية، حتى وأنت محاط من كل الجهات بالناس، حيث حلت النرجيلة وروائحها العابقة في سماء الشام، وكأنها واحدة من المظاهر الجديدة التي ترتديها مدينة الياسمين.
ما من شعرية في المنافسات العالية الشأن كحال “كأس العالم” إنه حرب غير معلنة، جنرالاتها على المربع الأخضر، ليسوا إلا بضعة أشخاص سينساهم الجميع بعد قليل، ويعود لما كان عليه حاله، عدا من لا يستطيع إلا أن يبقى على حاله ثابتا أبدا، اليد على الزناد، وفي القلب تترسب بقية حلم.
تمّام علي بركات