دراساتصحيفة البعث

الكيل بمكيالين.. سياسة ماكرون في إفريقيا

عن موقع مجلة إفريقيا/آسيا 18/7/2018

ترجمة: هيفاء علي

على الرغم من ويلات الاستعمار والاستقلال الشكلي الحالي للدول الإفريقية، فقد حافظت فرنسا على المواقف السياسية والاقتصادية نفسها تجاه العديد منها، حتى تلك الدول التي لم تكن فرنسا بالنسبة لها “البلد الأم”، مما دفع شخصيات سياسية إفريقية للتحدث بصراحة عن القمع الاستعماري الجديد ومواصلة التبعية لباريس. حتى يومنا هذا، توجد احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية للمستعمرات الفرنسية السابقة، إضافة إلى بعض المستعمرات البرتغالية والإسبانية في بنوك فرنسا. وتشمل هذه البلدان بينين، بوروندي وبوركينا فاسو، الغابون وغينيا- بيساو وجمهورية الكونغو “برازافيل”، ساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال، توغو، الكاميرون، جمهورية إفريقيا الوسطى، غينيا الاستوائية وتشاد. والملفت هنا أن هذه الدول لا يمكن أن تتوصل إلى أي اتفاق فيما بينها دون موافقة فرنسا، مما يمنحها نفوذاً هائلاً على سياسة واقتصاد هذه البلدان.

بالطبع، لا تحظى كل هذه الدول بنفس درجة الاهتمام بالنسبة لباريس. بعضها مهمّ من وجهة النظر الجيوسياسية ومكافحة الإرهاب، التي تهدّد المصالح السياسية والمالية لفرنسا، والبعض الآخر يشكّل أسواقاً للمنتجات الفرنسية، والثالث يمثل قاعدة الموارد واليد العاملة للصناعة الفرنسية. فرنسا منحت الأولوية لمالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية إفريقيا الوسطى، لأن الموارد الرئيسية التي تستلمها فرنسا منها هي اليورانيوم والذهب والماس. لليورانيوم أهمية إستراتيجية بالنسبة لفرنسا، حيث اعتمدت باريس في الستينيات والسبعينيات على الطاقة النووية، وتمّ تزويد 75٪ من صناعتها بالكهرباء من محطات الطاقة النووية، وعليه ليس من قبيل المصادفة أن تتوسع شبكة القواعد العسكرية الفرنسية حيث يتمركز سبعة آلاف جندي فرنسي في إفريقيا.

عند مجيء ماكرون إلى السلطة عام 2016، لم يتحول على الفور إلى الشؤون الإفريقية، بل انتظر عاماً كاملاً لإعطائها القدر الذي تستحق من الاهتمام وذلك في خريف 2017. على وجه الخصوص، استخدم ماكرون الرئاسة الفرنسية لمجلس الأمن الدولي ليعقد اجتماعاً وزارياً حول الوضع في منطقة الساحل، حيث تتواجد مصالح واهتمامات باريس: الإرهاب المستشري والتطرف، وأنشطة الجماعات الإرهابية في العديد من النواحي التي أثارتها العمليات الفرنسية، الأولى في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي عندما سحقت ليبيا وزعيمها القذافي الذي كان يعرف ساركوزي حق المعرفة منذ فترة طويلة، لكن الأعمال الإرهابية طالت فرنسا نفسها، وباتت المصالح الاقتصادية والسياسية الفرنسية مهدّدة بالخطر ما اضطر باريس للاحتفاظ بـ3000 جندي في منطقة الصحراء والساحل منذ عام 2013. وقد شنّت القوات الفرنسية عمليتين عسكريتين لكنهما فشلتا في القضاء على الإرهاب، على الرغم من أن  باريس رسخت فكرة إنشاء قوات مشتركة لدول الساحل الخمس “بوركينا فاسو ومالي وموريتانيا وتشاد والنيجر” قبل 21 تموز2017 لتحلّ محل القوات الفرنسية، ولكن حتى الآن لم تنجز المهمة لأن الأموال التي وعد بها الممولون لم تصل حتى الآن  إلى المستفيدين منها.

في الوقت نفسه، تشتكي وزارة الدفاع الفرنسية من أن قوات “الخوذ الزرقاء” التي تمّ تشكيلها في منطقة الصحراء- الساحل لا تملك الوسائل اللازمة لتحمي نفسها من خطر الجهاديين، وأن فرنسا ليس لديها  الوسائل التي تخوّلها لعب دور الشرطي على إفريقيا. ودعت الوزارة إلى زيادة مساهمة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والسماح للحلف بالقيام بعمليات في جنوب البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، يجب الاعتراف أنه لا يوجد إجماع في فرنسا بشأن هذه المسألة، لأن الكثيرين لا يؤيدون هذا الرأي ويعارضون توسيع نطاق مسؤولية حلف الناتو، مما يدعم زيادة فعالية عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام. في تشرين الأول 2017، نشرت باريس العقيدة العسكرية الجديدة لفرنسا، ممهورة بتوقيع ماكرون، والتي شدّدت على ضرورة مكافحة التطرف، ما يعني أن باريس تشعر بالقلق إزاء الوضع في شمال إفريقيا ومنطقة الصحراء- الساحل. لقد تمّ وصف قضية الجهاد والإرهاب الجهادي بالتفصيل الدقيق في هذه العقيدة، والتركيز الأساسي يجب أن يُكّرس لتدمير الجماعات الجهادية، لكن هذا لا يلغي التهديد الإرهابي بشكل عام لأن الإيديولوجية تبقى سليمة. وشدّدت العقيدة على  حقيقة أن الإرهاب يعاد تنظيمه وينتشر ويتمدّد ليطال مناطق جديدة باستخدام الفوضى والحروب الأهلية والدول الضعيفة. التنظيمات الإرهابية  الرئيسية لا تختفي على الإطلاق وأيديولوجيتها لا تتعثر. تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش” يعيدان تنظيم صفوفهما ويتكيفان مع الأوضاع والظروف، بل انتشرا في مناطق جديدة، بما فيها إفريقيا. ولا يزال تنظيم “داعش” يتمتّع بدعم وإمكانيات عالمية.

تعترف هذه العقيدة بوجود تعاطف واسع النطاق وحتى دعم  قوي للإرهاب من قبل سكان وشعوب العديد من البلدان. ووفقاً للعقيدة الفرنسية الجديدة، فإن إحدى الأولويات في هذا السياق هي دعم القوات المشتركة لدول الساحل الخمس. وفي الوقت نفسه، تعترف العقيدة بأن الإرهاب في الشرق الأوسط إنما تغذيه الاضطرابات التي تشهدها مناطق كثيرة في العالم، لكن ما لم تذكره تلك العقيدة أن أفعال السلطات الفرنسية ساهمت بشكل كبير في توسيع ونشر الإيديولوجية الإرهابية في ليبيا وسورية والعراق ومناطق أخرى.

في وقت لاحق، وسّع ماكرون عقيدته العسكرية وأغناها بأحكام اجتماعية واقتصادية ذات الصلة بإفريقيا، وذلك في خطابه الافتتاحي في 28 تشرين الثاني في واغادوغو “بوركينا فاسو”. في هذا الخطاب، أكد أنه يعتبر الأفارقة شركاء متساوين  لفرنسا، واعترف علانية بجرائم الاستعمار، وطلب عدم التركيز على الماضي، وأشار إلى الهجمات على كرامة الإنسان والهجرة غير الشرعية والإرهاب، والصراعات السياسية الداخلية، والتطرف وغيرها، بما في ذلك التركيبة السكانية التي هي مصدر المشكلات الحالية في القارة الإفريقية.

لم تحمِ العقيدة العسكرية الجديدة والوعود الصاخبة بمساعدة الأفارقة  الفرنسيين من الهجمات الإرهابية. ففي 2 آذار 2018، هاجمت جماعة متطرفة السفارة الفرنسية في واغادوغو رداً على عملية “بارخان” في منطقة الساحل، وانتقاماً لمقتل قادتها في تلك العملية، وفي محاولة لعرقلة توسيع قوات الأمن والتعاون.

في كثير من النواحي، تعدّ هذه الهجمات الإرهابية نتيجةً للعب باريس لعبة مزدوجة في منطقة الساحل والصحراء، تحديداً في مالي. وهكذا، يختبئ الفرنسيون وراء الاحتياطيات الإنسانية، ويتفادون نقل منطقة كيدال لتكون تحت سيطرة السلطات المركزية في مالي، ويجرون تنسيقاً تاماً مع حركة “أزواد” للسيطرة الفعلية على المدينة، إذ ترعى باريس هذه المجموعة الانفصالية، التي يقع مقرها بالقرب من باريس. كما أن الفرنسيين يغضّون الطرف عن الفظائع التي يرتكبها  أحد أكثر المتطرفين فظاعة في مالي، “إياد أغ غالي”.