ثقافةصحيفة البعث

عندما يتخطى العمل الدرامي حدود الزمان والمكان

 

في حارة من الحارات الدمشقية العتيقة، دارت أحداث “حمام القيشاني” المسلسل السوري الذي عُرض جزؤه الأول في العام 1994 محاكياً الواقع السوري سياسياً واجتماعياً في مرحلة الاستعمار الفرنسي، وفي العمل الذي اعتبر في حينه نقلة نوعية للدراما المحلية وفتح الباب واسعاً على مرحلة تاريخية هامة، تمت الإضاءة على طبيعة العلاقات الاجتماعية والصراعات السياسية تلك التي يمكنها أن تنسحب على غالبية الأحياء والمدن السورية، وتناول حياة شخصيات تاريخية لها مكانتها وذات تأثير كبير سواء داخل محيطها أو خارجه، تم تقديم كل ذلك ضمن رؤية فنية لبعض أحداث ذلك التاريخ ومجريات الأمور وحياة شخصياته دون الادعاء بأنه عمل تأريخي أو ناقل لتاريخ مرحلة معينة بحرفيته.

العمل الذي ضم في طاقمه ممثلين كبارا ووجوها جديدة “طلحت حمدي وسلوم حداد، نادين خوري، أمل عرفة، عابد فهد وسلمى المصري وسواهم” استطاع عبر أبطاله إدارة العديد من الحوارات السياسية والاجتماعية وتقديم صورة الواقع في الحي القديم بصورة فنية لائقة، وأضاء على حال المرأة في تلك المرحلة من حيث انفتاحها على الحياة ومقدرتها على المشاركة في الحياة السياسية وخوض تقلباتها على عكس ما تحاول دراما البيئة تكريسه وقد اجتاحت الفضائيات هذه الأيام.

هذا العمل الذي كتب حكايته دياب عيد وأخرجها إلى الحياة الراحل هاني الروماني وبمقاييس هذا الزمن؛ لم يكن مبهراً إلّا في جرأة الطرح ولم يكن باذخاً سوى في تعدد شخصياته وتنوعها، وبأجزائه الخمسة التي لم نملها أو نستنكر تتاليها، لم يكن ضخماً إلّا في تغطيته لكل صغيرة وكبيرة على ساحة أحداثه، لكنه بالمقابل استطاع أن يكون بصمة في الدراما المحلية، ولفت الأنظار إليه، ولعله سيحدث ذات الدهشة والمتابعة لو تسنى له أن يكون على شاشات العرض مرة جديدة.

أما ثمانينيات القرن الماضي بكل ما مررنا فيها من آلام وصخب وحروب فقد كانت الأساس لصناعة واحد من أهم الأعمال الدرامية السورية، مسلسل “رسائل الحب والحرب” الذي عانى أبطاله عبر أحداثه الكثير من مرارات الحرب وتذوقوا أيضاً الكثير من مشاعر الحب من خلال قصص تفاصيلها مجدولة بعناية كبيرة وبواقعية شديدة أيضاً، وأحداث متداخلة في القصر الذي تعيش فيه سيداته الست بحكاياتهن التي نسجت الحرب أغلب خيوطها.

والعمل الذي أخرجه باسل الخطيب، اعتبر حينها بداية لمرحلة مختلفة من الدراما المحلية والعربية، صحيح أنه اعتمد البطولة الجماعية لكنها كانت شخصيات امتلكت كل منها حكايتها الخاصة وخطها الدرامي الذي تم رسمه بعناية وحرفية عالية، كي يحدث أثره المطلوب في سير الأحداث العامة، كل ذلك عبر صورة ساحرة وموسيقا تصويرية رائعة أضفت من جمالياتها على الحكاية وساحة الأحداث مع طاقم عمل “سلوم حداد، سلاف فواخرجي، قصي خولي، أمانة والي، رامي حنا، نجاح سفكوني وغيرهم” أتقن تقديم الحكاية وأجاد تقمص شخصياتها.

هكذا يمكن القول أن بعض الدراما يمكن لها أن تكون خارج الأزمنة، ويمكنها أيضاً أن تتفوق بتأثيرها على الكثير من الأعمال التي انتهجت البذخ والمظهر الهوليودي، واعتمدت على تنوع انتماءات وجنسيات ممثليها، وانتقلت بأماكن التصوير إلى خارج حدود المكان، بميزانيات خيالية، وإن كان “حمام القيشاني” ينتمي إلى زمن لم تمكنه من هذه المزايا، فإن العديد من أعمال اليوم يمكنه أن تكون المثال على الدراما التي حظيت بالإقبال الشديد برغم تواضع ميزانيتها، ومحدودية أماكن تصوير أحداثها، مثالها “غداً نلتقي” الذي تم تصوير أغلب مشاهده في واحد من مراكز الإيواء لم تسلم جدران أفخم غرفه من التقشير، أو بقي زجاج نوافذها بمنأى عن التكسير، بينما لم يُشاهد على أجساد شخصياته من الممثلات ثوباً أكثر ترفاً من تلك التي لا توجد سوى في محلات الألبسة المستعملة، ودارت أحداثه اعتماداً على قصص من حياتنا اليومية.

إِنْ هي إلّا مجرد أمثلة، والأمثلة كثيرة وعديدة، فمن ينسى “أشواك ناعمة” و”أسرار المدينة، ألم يشغلنا طويلاً مسلسل حرائر، أو… أو… حتى أنه لم يمض الوقت طويلاً على “ندم” و”فوضى” أو “روزنا” وهل يمكننا أن لا نستعيد أحداث “شوق” أو “رفة عين” الذي أتاح للمشاهد فرصة المتابعة المدهشة لعمل درامي برسالة نبيلة، اعتمد نصاً درامياً مشغولاً بعناية شديدة جسده طاقم عمل من ممثلين ومصورين وموسيقى تصويرية بإدارة إخراجية أتقنت عملها ما أكسب العمل إمكانية إثارة الانتباه وجذب المشاهد والدخول إلى أعماقه تاركاً له استخلاص العبرة والدرس برغم ابتعاده عن عامل الإبهار سواء في الصورة أو البذخ على الديكورات والأمكنة؟.

هي جميعها وسواها أمثلة على أن الدراما الناجحة ليست بالضرورة تلك التي تأخذنا إلى القصور وديكوراتها الخيالية، وتستعرض أمامنا أفخم السيارات، بميزانيات أرقامها فلكية، فالدراما يمكنها أن تكون حاضرة ومؤثرة دون أن تأتي اقتباساً عن قصة عالمية، أو أن تكون نسخة معربة عن عمل درامي أو فيلم أجنبي نال حصته من النجاح والجماهيرية فتصدى له صناع الدراما اقتناصاً فرصةَ ضمانِ جزءاً من نجاحه، بمعنى أنه يمكن للدراما المحلية أن تثبت حضورها وتحظى بالانتشار الكبير، وهي قد فعلت في العديد من المرات، اعتماداً على طواقم فنية وممثلين محليين “إلّا حين تستدعي الشخصية” يعملون على نص حقيقي بإدارة من مخرج ناجح وهي على الأغلب عوامل أساسية كافية لإنتاج أعمال يمكنها أن تُحفظ مع كلاسيكيات فنون الدراما؛ كلاسيكيات كمثيلاتها العالمية تثير شغفنا والحنين ويمكننا العودة إليها في كل حين والغوص في أحداثها والانسجام مع شخوصها دون أن يكون للزمن ولمرور السنوات أي تأثير على أهميتها.

بشرى الحكيم