ثقافةصحيفة البعث

“العصافير ترفض الأقفاص” وقفة مع الشاعر عبد المنعم حمندي

 

بوعيه العميق لمفهوم الخطاب الشعري ووظيفته وأساليبه، إضافة إلى خبرته وتجاربه الشخصية التي تضمنتها مجموعاته الشعرية ترك الشاعر عبد المنعم حمندي بصمته الخاصة والمميزة في المشهد الثقافي العراقي، وعبّر من خلال دواوينه عن الحلم العربي والهم القومي التي لطالما تميز بها جيل السبعينيات، والشاعر حمندي من مواليد بغداد 1954 دخل عالم الصحافة ومارس العمل الإعلامي وتدرج فيه، ومثّل العراق في العديد من المهرجانات والمؤتمرات العربية وفي المحافل الدولية، ونالت قصائده ودواوينه اهتمام الدارسين وكبار النقاد.

الريادة الشعرية
نشأ الشعر في العراق منذ بداية الحضارة العراقية القديمة، وقد ذكر الآثارييون والمؤرخون في مدوناتهم أنه وجد عند الأقوام القاطنة في بلاد الرافدين، وعن الحركة الشعرية في العراق ومراحل تطورها يقول الشاعر: “للشعر في منطقة العراق بصمته ونكهته الخاصة، والمؤرخون العرب كانوا متفقين دوماً على أن العراق هي منبع دائم لحركة الشعر العربي ولحركة الحداثة الشعرية، فالريادة الشعرية عراقية انطلقت منذ أربعينيات القرن الماضي على يد الشاعر بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ثم تلقفها الشعراء العرب في الشام ومصر والمغرب العربي فالعراق قديماً وحديثاً هو منطلق الشعرية العربية والحداثة الشعرية”.

بين الأمس والغد
وإذا كان لكل كاتب أو أديب أو فنان بصمته في الحقل الذي يتفاعل معه وينشط من خلاله، فإن تجربة الشاعر حمندي لا تخلو من هذه الميزة وعنها تحدث قائلاً: “البدايات كانت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، بدأت أكتب القصيدة العمودية على نظام الشطرين والقافية الواحدة وتحولت إلى كتابة الشعر الحر لمتغيرات حركة التجديد في الشعر العربي، واكبتها وقدمت تجارب شعرية حديثة من منتصف السبعينيات، إضافة إلى مقومات الشعر الأساسية التي أبرزها البلاغة والإيقاع واللغة، وعملت على جوهر الشعر فعمدت إلى ابتكار الصورة الحسية الذهنية، وخلق نموذج مغاير عما هو سائد في المشهد الشعري العربي، وقد صدر ديواني الأول بعنوان “أتيتك غداً” ولهذا العنوان إشكالية لغوية وبلاغية فكنت أنظر إلى أن التجديد في القصيدة يكون دائماً بما هو مدهش ومختلف، ثم صدر ديواني الثاني بعنوان “دخان الشجر” أكدت فيه على أثر الحرب في الحياة والإنسان، وبعده جاء ديواني الثالث “سآتيك أمس” أما ديواني الرابع فكان “أول النار” وهذا العنوان قد يكون العقل وما يحمل من دلالات والخير الكوني ثم جاء عملي الخامس “طوفان في الناي” ومن بعدها “لذائذ الجمر واليقين” هذا الديوان الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب في سورية، ثم “معراج آخر” وديوان”تهجدات” ثم الأخير”ضوء الروح” وهذه المجموعات الشعرية التي صدرت عبر ثلاثة عقود تحمل الهم العربي ولا تفرق بين جرح عراقي أو دمشقي أو عُماني، ومهما تعددت الموضوعات والأفكار في قصائد هذه الدواوين إلا أن مصبها الحلم العربي والهم القومي، فأينما أكون في أرض العرب أحمل جراحها وهموم أمة العرب في قلبي ووجداني، وأرى أن الشاعر هو لسان هذه الأمة وضميرها وقلبها يعبر عن آلامها وجراحها”.

الشعراء عصافير
أيضا تعددت الأساليب الشعرية في حياة العرب الأدبية، وكان لكل شاعر أسلوبه الذي يتميز به وربما غطى نشاط شاعرنا معظم الحالات التي عرفها الشعر العربي وعنها يقول: “الشعر أولاً وقبل كل شيء لا يخضع لقالب وهو خارج الزمن وخارج الشكل، الدفق الشعري يأتي بأي شكل كان سواء على نظام الشطرين أو التفعيلة أو في قالب ما يسمى قصيدة النثر، الشعر هو إيحاء وضوء الروح، ولهذا عندما نقلب بين رفوف الكتب عن دواوين الشعر لا نسأل عن بدوي الجبل أو طرفة بن العبد أو الجواهري ولا نسأل إلى أي عصر ينتمي أحدهم، الشعر أكبر من الأزمان ولهذا نجد أن المتنبي الذي توفي قبل ألف عام يكفي أمة العرب لألف عام قادمة ونستذكر شعره في أمسياتنا وأحاديثنا، فالشعر هو الجوهر الذي نبحث عنه، أنا ضد أن نصنف الشعر إلى أجيال لأنني أرى أن الشعراء مثل العصافير لا يجب وضعهم ضمن أقفاص”.
وعند سؤاله عن رأيه في الحياة الثقافية في سورية بشكل عام والحركة الشعرية بشكل خاص أجاب: “الشام نهر جمال وإبداع متدفق سواء في السرد أو الشعر أو الفن التشكيلي أو في حركة النقد والفكر، منذ بواكير النهضة العربية ومنطلق المشروع الحضاري العربي كانت الشام وماتزال هي المنبع الأول وإشعاعها تمدد واتسع في كل جهات الوطن العربي الكبير بمختلف تفرعاته وتجلياته، الانعطافات التاريخية التي مرت بها الأمة بشكل عام سواء في المشرق العربي والمغربي كان للشام تأثيرها وأثرها، ومامن أزمة خانقة مرت بها الشام إلا ولها أثرها على باقي أقطار الوطن العربي، فعندما تتعافى الشام تتعافى الأمة، فدمشق هي نبض القلب العربي فإذا توقف النبض توقف القلب، ولا يمكن لهذه الأمة أن تنهض دون نهضة دمشق، أما كبوات الحلم العربي فهي كبوات جواد وسينهض هذا الحصان الجامح من كبواته أكثر قوة وصهيلاً”.

ديوان العرب
ومايشاع أيضا أن الرواية عالمياً تتقدم على ما عداها من الفنون الإبداعية الأخرى، فهل تخلى الشعر عندنا عن أن يكون ديوان العرب؟ وعن رأيه في هذه النقطة تحدث حمندي: “لم تعد وظيفة الشعر كما كانت قديماً، لقد نافس فن الشعر فنونا أخرى وبدأت ظواهر جديدة تزاحمه وتخنقه، فإذا كان الشعر في القرن الماضي نشيد العامة من الناس وصوت الشارع فهو الآن فن خاص بالنخبة، فالمشهد الثقافي العربي تراجع لحساب الرواية، ربما لأن السرد تفوق على الشعر بسبب الأزمات الاجتماعية والسياسية، ولأن السرد العالمي هو وجه من أوجه التوثيق، فالرواية هي تاريخ شعبي سري ولم يستطع الشعر أن يقوم بدور المؤرخ أو الموثق إلا أن السارد الروائي استطاع أن يتقن هذا الدور، فالسارد فنان يضفي على الوثيقة نوعاً من الجمالية ويعيد إنتاجها، وأحياناً يقوم الشاعر بهذا الدور في إعادة إنتاج حدث بصياغته وفق رؤيته الشعرية كما فعل الشاعر محمود درويش عند توثيقه لأحداث بيروت من خلال قصائد أحمد الزعتر وسجل أنا عربي، فهل هذا يعني أنه مؤرخ وموثق؟! لا.. هو شاعر أراد صياغة الحدث بأسلوبه، المبدع هو مؤرخ بقوام الفنان الذي يرصد وفق معايير مغايرة لمعايير المؤرخ والسارد يؤدي هذا الدور.
عُلا أحمد