دراساتصحيفة البعث

ترامب يكبل الاتحاد الأوروبي

ترجمة: هيفاء علي

عن موقع لو غراند سوار 10/8/2018

يُظهر ردّ الاتحاد الأوروبي على قرار ترامب تفعيل العقوبات ضد الشركات الأوربية التي تتعامل تجارياً مع إيران، أن هذه الكتلة التي تضم 28 دولة ليست سوى كيان عجوز أبله يعاني من شلل تام في مجال السياسة الدولية.
ما من شك أن قادة الاتحاد الأوروبي مذعورون ومستاؤون من محاولة ترامب إفشال اتفاقهم المحبوب مع إيران، وتضاعفت مخاوفهم جراء يقينهم في قرارة أنفسهم أنهم غير قادرين على فعل شيء، ما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون ووزير ماليته لإبداء الأسف على أن أوربا ليست سيادية وليست مستقلة. زد على ذلك أن عجز الاتحاد الأوروبي تجاه الأحادية القطبية الأمريكية دليل آخر على الخطر المحدق بسلامة البنيان الأوروبي. ومع ذلك، فإن السياسة التي كانوا يقودونها على مدى ربع قرن هي التي قادتهم إلى هذا المأزق الراهن.
وكاستجابة للعقوبات الأمريكية على إيران، أعلن الاتحاد الأوروبي عن وضع قانون “حصار”، وهو إجراء تشريعي لم يُستخدم قبل ذلك لأنه لا يعمل. حتى الشخصيات البارزة في بروكسل تعترف أنه ما في يدها حيلة، وقال أحدهم: “إنها إشارة سياسية منحها الاتحاد الأوربي، وليست علاجاً سحرياً”. بمعنى آخر، هذا الوضع لن يحمي الشركات الأوربية من العقوبات الأمريكية. المئات من هذه الشركات تحزم حقائبها وتستعد لمغادرة إيران، وبينها كبرى الشركات الصناعية في العالم، منها العملاق الفرنسي النفطي “توتال”، و”ايرباص” التي تُقدّر عقودها بمليارات الدولار تبخرت في الهواء بفضل المدعو ترامب.
لقد تبنّت مؤسسات الاتحاد الأوروبي موقف الحزب الديمقراطي الذي يعتبر أن روسيا هي سبب كل “الشكوك” وجميع “الانقسامات” داخل الكتلة. ولكن الحقيقة هي أن دونالد ترامب هو الذي فجّر الحلم الأوروبي الذي لم يكن يوماً أي شيء سوى حلم، خيال يخلو من أي واقع، الوهم بأن الاتحاد الأوروبي سيجعل الدول المختلفة أقوى جماعياً. والحقيقة هي أن التكامل الأوروبي كان، منذ البداية، مشروعاً تدعمه الولايات المتحدة لمساعدة الغرب على خوض الحرب الباردة. وكان الاندماج في الاتحاد الأوروبي، عقائدياً ومؤسساتياً، جزءاً لا يتجزأ من منظمة حلف شمال الأطلسي، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. وبعبارة أخرى، التكامل الأوروبي أمر مستحيل من دون دعم الولايات المتحدة، وبالتالي، عندما يحرم الاتحاد الأوروبي من هذا الدعم، كما هي الحال في ظل ترامب، فإن قادته يغدون تائهين.
لم تتحقق أية مكاسب للاتحاد النقدي، والتي وعدت بها معاهدة “ماستريخت” عام 1991. وقد قيل إن اليورو سيشجع النمو، لكن في الواقع، منذ إطلاق العملة الموحدة عام 1999، قامت الولايات المتحدة بإضعاف منطقة اليورو إلى حدّ كبير. وقد وعدت بأنها ستحمي أوروبا من الصدمات الخارجية، لكن انهيار الإنتاج كان بالأهمية نفسها في أوروبا كنتيجة للأزمة المالية التي وقعت عام 2008. وقبل كل شيء، قيل إن اليورو سيحلّ محل الدولار في التجارة العالمية. وبعد عشرين عاماً لا يزال الدولار عملة التجارة الأولى عالمياً، خاصة في قطاع النفط!.
لهذا السبب استخدم بنك “بي أن بي باريبا”، مثله مثل جميع البنوك، دولارات للتعاقد مع إيران ودول أخرى مدرجة في القائمة السوداء، حيث تمّ تغريمه بـ 9 مليارات دولار من قبل الولايات المتحدة في عام 2015. لم تفعل أوروبا أي شيء ضد هذه الإساءة الصارخة الصادرة عن الولايات المتحدة الأمريكية في ظل إدارة أوباما، حتى لو كان بالضبط الإجراء نفسه الذي أعلن عنه ترامب فقد تمّ فرض غرامة على البنك نفسه عقب الأزمة الأوكرانية، عندما ذهب الاتحاد الأوروبي، كالعادة، إلى مربيته الأمريكية للاختباء تحت عباءتها. وها هو الاتحاد الأوروبي يحصد الآن حصاداً جديداً من الانتكاسات والخيبات في ظل قيادة ترامب الشرير.
في الواقع سيطرت الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي من خلال التهديد بخنق النظام المصرفي، ووجود اليورو لم يضع حداً لهذا الوضع. وطالما بقيت العلاقة بين الدولار والنفط صلة تدعمها الهيمنة العسكرية الأميركية الهائلة على العالم، فلن يتغيّر شيء. من الناحية العسكرية، منحت الدول الأوروبية دفاعاتها للولايات المتحدة تحت مسمّى “الدفاع الأوروبي” المكفول من قبل حلف الناتو الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، تتقلص القدرات العسكرية للقوى العظمى السابقة في تاريخ العالم مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا. عندما تبدأ قوة نووية مثل فرنسا بالتباهي بنجاح إجراء عملية عسكرية في صحارى دولة فاشلة مثل مالي، ندرك أن أوروبا لم تعد أي شيء.
حقيقةً، يأتي عدوان ترامب ضد إيران في وقت تغيب فيه أوروبا، مرة أخرى، عن السياسة الدولية في الشرق الأوسط. في عام 2011 كانت فرنسا وبريطانيا رأس الحربة في جوقة المتآمرين لتغيير نظام الحكم في سورية، وكانتا السباقتين إلى قطع علاقاتهما الدبلوماسية مع دمشق، ومن ثم فرض الاتحاد الأوروبي واحدة من أكبر مجموعات العقوبات الاقتصادية الجائرة في التاريخ على هذا البلد. هو لا يعرف ماذا يفعل الآن وهو يرى كيف تستعيد الدولة السورية السيطرة على كامل الأراضي السورية تقريباً بدعم من حلفائها وأصدقائها. من الصعب تخيل مثل هذا الفشل في السياسة الخارجية، حتى أن وزير الخارجية “الإسرائيلي ليبرمان”، يعترف الآن بأن الحكومة السورية انتصرت في الحرب. كما يقترن هذا الفشل الدبلوماسي الأوروبي بالنجاح الدبلوماسي والعسكري الروسي المذهل، حيث إن روسيا هي الآن محور إرساء السلام في المنطقة.
قد يكمن أكبر فشل للاتحاد الأوروبي في انهيار إيديولوجيته الواضحة. منذ تأسيسه في الخمسينات، كان بناء أوروبا يقوم على فكرة أنه من الممكن التغلّب على قاعدة القوة والارتقاء بها إلى شكل أعلى من العلاقات الدولية. هذه تقريباً الفكرة نفسها التي نقلها الأيديولوجيون السوفييت الذين قالوا إن الكتلة الاشتراكية انتقلت نحو شكل جديد من العلاقات الدولية.
كان لدى القادة الأوروبيين انطباع بأن روسيا بوتين مثّلت العودة لعهد القوة، فقد عارضوا هذه الطريقة في ممارسة السياسة، واستغلوا الفرصة للالتقاء وخلق نوع من التماسك لمحاربة فزّاعة جديدة.
ومن ناحية أخرى، فإن قرار ترامب التخلي عن تعددية الأطراف يقوّض إلى حدّ كبير الأساس الذي استندوا إليه على الدوام منذ عقود، لأن الولايات المتحدة لم تعد فجأة حامياً عظيماً بل أصبحت عدواً. ويبدو أن القادة السياسيين الأوربيين نسوا منذ فترة طويلة كيفية صنع سياسة حقيقية، لأنهم قادة واهنون، سيئون، وفاشلون للغاية، وهم الآن تائهون تماماً في البحر الهائج لعالم أصبح فجأة غير مستقر.