ثقافةصحيفة البعث

من قبح الجماليّات أم من جماليّات القبح

 

للمفارقة، أو لعلّه من المضحك المبكي الإعلان، أنّه إذا خُيّرتُ بين الرقيب الرسمي والآخر المتطوّع لقلتُ: أنّني سأصطفّ مع الرسمي، وقد أصادقه كرجل طيّب يظنّ أنّه منذور لحماية شرع الله وأنظمة المجتمع على الأرض. وهو الذي توظّفه المؤسّسات الثقافية والتربويّة قيّماً على أخلاق المجتمع وتقويم طفولته إذا اعوجّتْ الثقافة من منظورها أو سارت في مساربَ لا تناسب سياساتها الموضوعة بهذا الشأن. وقد تنسى هذه المؤسّسات ضوابطها التي صيغت لمرحلةٍ زمنيّة ما، لتظلّ سارية المفعول على كلّ المراحل، فلا يسقطها التّقادم. ثمّ لتتناسى تطويرها بما يواكب الجديد الوافد إلى مجتمعاتها ــ شاءت أم أبت ذلك ــ في زمن العولمة وتحوّل العالم إلى “قرية صغيرة” كما يقال. فأنت قد تقبل الخارطة الجميلة التي يرسمها الرقيب الرسميّ على مخطوطتكَ بقلمه الأحمر الجميل وتحوّلها بذهنك إلى لوحة فنّيّة مهضومة، إذا ما قورنت بخطوط ولوحة ذلك المتطوّع للخدمة كـ “ملكيّ أكثر من الملك” حفاظاً على مكاسب يتطلّع إليها وقد يصل، من يدري؟!. وهو غالباً “مثقف” لا موظّف، فكيف إذا كان مثقفاً، موظّفاً؟!. فقل حينئذٍ على الدنيا السّلام. وقد حدث معي ما حرّضني على ذكر مثالين أحدهما طريٌّ لم تجفّ مياهه بعد، والآخر يعود إلى زمنٍ قديم نسبيّاً، مع مؤسّستين ثقافيتين كبيرتين، أتشرّف بالانتماء إليهما بغثهما وثمينهما، آملاً أن يغربلا يوماً من شوائبهما الكثيرة، بفصل القمح من الزؤان، لما فيه خير للثقافة الوطنيّة الحقيقيّة. الأولى مؤسّسة “اتحاد الكتاب العرب” حيث قدّمتُ منذ أكثر من عقدٍ من الزمن نصوصاً جُوبهتْ بالرّفض الشديد جميعها بلا أيّ نقاش، ومع المحاولة الثانية جوبهتْ بالرّفض العشوائي مناصفة من حجمها الكلّي، ثم مع المحاولة الثالثة، تمّ قبولها بلا أيّ حذف، والأختام الثلاثة ما زالت لديّ على الصفحة ذاتها حتى الآن؟!.
والمؤسّسة الثانية هي “الهيئة السوريّة للكتاب” التي رفضتْ الكتيّب الذي كلّفتُ به من قبل مديريّة منشورات الطفل لصالح سلسلة اليافعين والناشئة. وهو عن الشاعر الكبير “علي الجندي”. احد قرّاء المادّة التي قدّمتها، نصحني بتغييرها بشكلٍ جذري ليرضى عنها حسب تصوّراته وخبرته التربويّة النّمطيّة التي رسمها ضمن المؤسّسة لبناء شخصية الطفل. والثاني قال بأنه لو قدّم المخطوط في السويد لرفض! ومع أنّني أيّها السّادة لا أعرف السويد إلّا على الخارطة، ولا إحصائيّة لدي حول المخطوطات المرفوضة هناك والتي تخدش حياء المجتمع وتشوّه تربية أطفال المجتمع السّويدي. فإنّني لا أملك سوى تحفّظي وتشكّكي الخجول بقوله هذا لأسباب تبدو لي كما للجميع من البداهة بمكان ولا داعي لذكرها.
وسؤالي هنا، هل يجب أن نغيّر طبيعة حياة الشاعر “علي الجندي” وتزييفها ليرضى “الرّقيب المتطوّع” عن المخطوط، أم هل يجب حذف أبيات الشعر الإيروتيكيّ من قصائد امرئ القيس، فقط، لترضى عنها الذائقة النّمطيّة؟ أو إلغاء قصائد أبي نواس الخمريّة، أو الشطحات المعرفية لأبي العلاء، والمتصوّفة أو..أو.. ليستقيم التّاريخ الرّسمي؟ ثمّ ماذا ستجد في حياة شاعر إشكالي كـ “علي الجندي” ابتدأ وعيه بالرفض والتّمرّد على الموروث بأن كنّى نفسه “أبو لهب” وقد تلخّصت مسيرته باتباع ثالوثٍ مقدّس حتى الثمانين ونيّف من عمره “الخمرة والنساء والصّخب” كما قال الشاعر “ممدوح عدوان”؟. أقول هل يجب تشويه حياته بمعنى تصويبها هنا، كما يرى الرقيب المتطوّع؟ وكيف سيكون للكتابة مصداقيتها وللقراءات اختلافها الصّحّي، لو استطاع هذا الرقيب السّيطرة على مفاصل الثقافة عموماً؟ـ وهذا ما يبدو لي على الأقل ـ ألا تكفي الجهات الرّقابيّة المختلفة (..؟.) على المناهج التربويّة والثقافيّة، ليأتي الرقيب المتطوّع ليدلي بدلوه أيضاً؟ أمّا القارئ الآخر فقد ترك لي مشكوراً ـ وهذا يدلّ على أنّه في موقع القرار ـ حريّة نشر كلّ المادة في مجلة المعرفة، وسؤالي هو: هل مجلّة المعرفة الصّادرة عن نفس الهيئة الثقافيّة، توزّع في جغرافيّة أخرى، ولا وجود لها في بيئة اليافع أو النّاشئ مثلاً؟ إلى متى سنتوارى وراء أصابعنا، أو ندفن رؤوسنا في الرمال؟ وندّعي فهمنا لروح ومخيّلة ووعي اليافعين، ثمّ من يستطيع حجب المعرفة في هذا العالم الصغير، أليس الأجدى تقديم المعلومة التاريخيّة بطريقة تحترم ذائقة الإنسان الجديد، ولا تصادر وعيه المتطوّر أكثر من سذاجتنا؟ خصوصاً في زمن المدّ الجارف لوسائل الميديا المختلفة.

صرخة
حبّاً بكَ أيّها الوطن نكتب أجملَ القصائد ونسفحُ أرواحنا وقلوبنا على مذبحِ مجدك، كُرمى تظلّ رايتك تخفق عالياً، فهل لك أن تقبل رجاءنا سيّدي بالإصغاء لصرخاتنا الحارقة، نطلقها مدويّة في فضاءاتك الرّحبة بشائر تحذير، بعد أن استنسر البغاث بأرضكَ وتعكّرت مياه وجهكَ العذب بأصابع وحصى الملوّثين.

الموت واقفاً
أهدوه الكثير من المدحيّات لبطولاته في الحرب، مدحيّات تتّسع لحياتين كريمتين ونيّف. وبعد انتهاء الحرب وجد نفسه مرميّاً على قارعة الرصيف مشروخ الروح والجسد، بين أشداق الحياة بلا عمل أو أسرة أو مال أو طعام. حاول تذكيرهم بأنه ذاك البطل الذي تكلّمت عنه الجرائد والإعلام كثيراً، والذي امتدحه المسؤولون بغزارة، لكن دون جدوى.
نصحه البعض بالقول: يكفيك أيّها البطل ما وصلتَ إليه!
خجل المسكين من فعلته حدّ الموت، فقرّر في لحظة تجلٍّ أن يتابع مسيرته المجيدة متدثّراً بكرامته المهدورة. حفر قبراً على قدّ قامته الفارعة، ودفن نفسه فيه واقفاً. إذا مررت أيّها العابر الجميل بجانب ذاك القبر يوماً أرجوك: أدِّ التّحيّة لتلك اليد المرفوعة، فدماء صرختها لم تجفّ بعد.

الحياة شعراً
يقول الشاعر الأمريكي “آمونس”: “محاولة كسب العيش من الشّعر هي مثل وضع الأغلال في جناح فراشة” لذلك لا تستغرب كيف يموت الشعراء والأدباء عموماً بالجملة على قارعة التّاريخ، إلّا ما ندر. والسّؤال الآن المترمّد على الشّفاه، من أوحى لذاك الشّاعر الأمريكي البعيد جغرافيّاً بفكرة توصيف ثقافتنا وكيفيّة تعاطيها مع الأديب بهذه الدّقّة ، يقول ملتاثٌ بالشعر.
أوس أحمد أسعد